كتب للقراءة - الاحتيال الكبير

1 review / Add a review
يلتقي رجلان متشابهان في المظهر في أفريقيا؛ أحدهما بريطاني، والآخر ألماني

Descriptions

 كتب للقراءة - الاحتيال الكبير




يلتقي رجلان متشابهان في المظهر في أفريقيا؛ أحدهما بريطاني، والآخر ألماني، كلٌّ منهما وراءه قصةٌ غامضة تسبَّبَت في نفيه إلى هذا المكان. يُخطِّط الألماني «فون راجاشتين» لقتل الإنجليزي «إيفرارد دوميني»، وسرقةِ هُويته لاستخدامها في التجسُّس على المجتمع البريطاني لصالح ألمانيا، ويذهب بالفعل إلى بريطانيا، ويشكُّ كلُّ مَن يراه فيه بسبب بِنيته القوية وعاداته المختلفة، ولكنه يَتمكَّن من إقناعهم بأن هذا من أثرِ المكوث في أفريقيا عدة سنوات. تَتعقَّد الأمور عندما تَتعرَّف عشيقة «فون راجاشتين» عليه وتُطالبه بالزواج منها، لكنه يطلب منها الانتظار؛ فمهمتُه في بريطانيا أهمُّ من أي علاقةٍ عاطفية. من ناحيةٍ أخرى، يهتمُّ «فون راجاشتين» بصحة الليدي «دوميني» التي كانت تشعر منذ اللحظة الأولى بأنه ليس زوجَها. فهل سينجح «فون راجاشتين» في خُطته، أم سيحدث شيءٌ يقلب الموازين؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية التي تمزج بين مغامرات الجاسوسية وقصص الحب!


تاريخ إصدارات هذا الكتاب‎‎

صدر الكتاب الأصلي باللغة الإنجليزية عام ١٩٢٠.

صدرت هذه الترجمة عن مؤسسة هنداوي عام ٢٠٢١.


عن المؤلف

إدوارد فيليبس أوبنهايم: كاتبٌ إنجليزيٌّ يشتهر برواياته التشويقية. وُلد في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر لعام ١٨٦٦. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى عمل في وزارة الإعلام فيما استمر في كتابة رواياته. وفي حياته كتبَ ما يربو على ١١٦ رواية معظمها عن التشويق والمؤامرات الدولية، لكن هذا العدد كان يشتمل أيضًا على روايات رومانسية وكوميدية. ويُعَد أوبنهايم أحد الأوائل الذين كتبوا رواياتٍ عن الجواسيس والجاسوسية كما نعرفها اليوم.



الفصل الأول

بدأتِ الواقعة التي كانت ستنتج عنها أحداثٌ عظيمة عندما استحثَّ إيفرارد دوميني — الذي كان قد أخذ يشق طريقه عبر الشجيرات طيلةَ الساعة إلا الربع الأخيرة نحوَ تلك الخيوط الرفيعة الحلزونية من الدخَان — مُهرَه على بذلِ محاولةٍ يائسةٍ أخيرة، واصطدم بشجيرة الدِّفْلى الكبيرة ليسقط على رأسه في الجزء الصغير الخالي من الأشجار. تطوَّر الأمر في صباح اليوم التالي، عندما وجد نفسَه لأول مرة منذ عدة أشهر على سريرٍ مدولب، مغطًّى بملاءات من الكتان، وسقفٍ رائع مجدول بأشجار الخيزران يفصل بينه وبين الشمس القاسية. رفع نفْسَه قليلًا في الفِراش.


تساءل: «أين أنا بحقِّ الجحيم؟»


وقف صبيٌّ أسود، كان جالسًا القُرفُصاءَ في مدخل المنزل المصنوع من القش، وتمتم بشيءٍ ما واختفى. بعد لحظات قليلة، انحنى شخصٌ أوروبي نحيف وطويل، يرتدي ملابسَ ركوب خيل ناصعة البياض، أتى إلى جانب دوميني.


استفسر بأدب: «هل تشعر بتحسُّن؟»


أجاب بفظاظة إلى حدٍّ ما: «نعم.» وتابع قائلًا: «أين أنا بحق الجحيم، ومَن أنت؟»


أصبح أسلوبُ الوافد الجديد صارمًا. كان شخصًا ذا هيئة موقَّرة، وانطوت نبرةُ صوته على قدرٍ من التوبيخ.


أجاب: «أنت على بُعد نصف ميل من نهر آيريواري، إذا كنتَ تعرف ذلك المكان، على بُعد نحو اثنين وسبعين ميلًا جنوبَ شرق مستوطنة داراواجا.»


«اللعنة! إذن أنا في شرق أفريقيا الألمانية؟»


«دون أدنى شك.»


«وأنت ألماني؟»


«بكلِّ فخر.»


أصدر دوميني صفيرًا منخفضًا.


وقال: «آسفٌ بشدة على التطفُّل. لقد غادرت مارلينشتاين منذ شهرين ونصف، مع عشرين صبيًّا والكثير من المؤن. كنا نقوم برحلةٍ كبيرة وراء الأُسود. وأخذت بعض العساكر الأفارقة الجدد وأثاروا المتاعب؛ نهبوا المؤنَ ذاتَ ليلة وكانت العواقبُ وخيمة. اضطُرِرت إلى إطلاق النار على واحدٍ أو اثنين، وفرَّ الباقون. أخذوا بوصلتي، عليهم اللعنة، وأنا على بُعد مائة ميل تقريبًا من موقعي. هل يمكنك إعطائي شرابًا؟»


كانت الإجابة مهذَّبة: «بكل سرور، إذا وافق الطبيب.» وقال: «تعالَ يا جان!»


ظهر الصبيُّ فجأة، واستمع إلى كلمةٍ أو كلمتين من الأوامر الموجزة بلغتِه، واختفى في العُشب المعلَّق الذي كان يؤدِّي إلى كوخٍ آخر. تبادل الرجلان نظراتٍ تحملُ ما هو أكثرُ من مجردِّ اهتمامٍ عاديٍّ. ثم ضحك دوميني.


وقال: «أعرف ما يدور بخَلَدك.» وتابع: «لقد اندهشت جدًّا عندما دخلْتَ. فنحن متشابهان للغاية، أليس كذلك؟»


أقرَّ الآخر: «ثَمة شبهٌ كبير جدًّا بيننا.»


أسند دوميني رأسه على يده وتفحَّص مضيفه. كان التشابه واضحًا بدرجةٍ كافية، على الرغم من أن الأفضلية كانت كلُّها تعود لصالح الرجل الذي وقف بجانب سرير المخيَّم بذراعين مضمومتين. عاش إيفرارد دوميني، طوال الستة والعشرين عامًا الأولى من حياته، مثل أيِّ شاب إنجليزي عادي في مكانته؛ التحق بمدرسة إيتون، في أكسفورد، ثم قضى بضعَ سنوات في الجيش، وبِضع سنوات حول المدينة فَشِل خلالها فشلًا ذريعًا في إدارة ممتلكاته المرهونةِ بالفعل، وبضعة أشهُر مفجعة، ثم حياةً فارغة. بعد ذلك، ولمدة عشر سنوات، مكث في البداية في المدن، ثم في الأماكن المظلمة في أفريقيا؛ سنواتٍ لم يعرف عنها أيُّ شخص أيَّ شيء. كان إيفرارد دوميني قبل عشر سنوات، بلا شك، حسَنَ المظهر. وبقيت الملامحُ الوسيمة، لكنَّ عينَيه فقدَتا بريقهما، وفقدَ جسدُه مرونته، وفمُه حزْمَه. كان يبدو كأنه فقَد قبل الأوان جاذبيتَه، التي ضاعت بسبب الأمراض وتبديد الأموال. على النقيض كان رفيقه الحالي. فقد كانت ملامحه وسيمةً مثله، مصبوبةً في قالَبٍ أقوى وإن كان مشابهًا. كانت عيناه لامعتَين ومفعَمتين بالحماس، وكان فمه وذقنه يَشِيان بحزمٍ ينمُّ عن رجلِ أفعال لا أقوال، واتَّسم جسده الفارع بالرشاقة والمرونة. كان يتمتَّع بصحةٍ ممتازة، وفي حالة عقلية وجسدية مثالية؛ فهو رجلٌ عاش حياة كريمة وقدرًا من الرضا، على الرغم من الجدِّية البسيطة التي كانت تبدو على تعابير وجهه.


تمتم الإنجليزي: «نعم، لا شك في الشبه، على الرغم من أنني أفترضُ أنني كنتُ سأبدو أكثرَ شبهًا بك لو كنتُ قد اعتنيتُ بنفسي. لكني لم أفعل. وهذا أسوأ ما في الأمر. فقد فعلتُ العكس؛ وحاولت أن أضيع حياتي وكِدت أن أنجح في ذلك أيضًا.»


دُفعَت الأعشاب الجافة على جانبٍ واحد، ودخل الطبيب، الذي كان رجلًا بدينًا قصيرًا، يرتدي هو الآخر ملابسَ ناصعة البياض، ولديه شعرٌ أصفرُ ذهبي ونظارات سميكة. أشار مواطنه نحو السرير.


«هل يُمكنك أن تفحص مريضَنا أيها الطبيب، وتصفَ له ما يلزم؟ لقد طلب شرابًا. فدَعْه يحصلْ على النبيذ أو أيِّ شيء مفيد له. وإذا تحسنَت صحَّته بما فيه الكفاية، فسينضم إلى وجبتنا المسائية. فلتعذرني. لديَّ تقرير لأكتبه.»


أدار دوميني الجالس على الأريكة رأسَه وراقب الشخصَ المغادرَ وفي عينيه مَسحةٌ من الحسد.


وسأل الطبيبَ: «ما اسم الرجلِ الذي أنقذ حياتي؟»


بدا على الأخير كما لو أن سؤاله لا يتَّسم بالاحترام.


«إنه معالي الميجور-جنرال البارون ليوبولد فون راجاشتين.»


تمتم دوميني: «كل هذا!» وتابع قائلًا: «هل هو الحاكم، أو شيءٌ من هذا القبيل؟»


أجاب الطبيب: «إنه القائد العسكريُّ للمستعمرة. ولديه أيضًا مهمة خاصة هنا.»


علَّق دوميني بوقاحةٍ دون تفكير: «يا له من رجل حَسن المظهر مقارنةً بكونه ألمانيًّا.»


لم يُبالِ الطبيب بما قاله. كان يقيس نبض مريضه. وأنهى فحصه بعد بِضع دقائق.


وسأل: «لقد شربتَ الكثير من الويسكي مؤخرًا، أليس كذلك؟»


ردَّ باقتضاب: «لا أعرف بحقِّ الشيطان ما علاقةُ ذلك بك، لكنني أشرب الويسكي كلما استطعتُ الحصول عليه. مَن منَّا لا يفعل ذلك في هذا المناخ الوبائي!»


هزَّ الطبيب رأسه.


وصرَّح: «المناخ جيد مع مَن يتعامل معه جيدًا.» وتابع: «معاليه لا يشرب سوى النبيذِ الخفيف والمياه الغازية. لقد أمضى هنا خمسَ سنوات، ليس فقط هنا ولكن في المستنقعات، ولم يمرض يومًا واحدًا.»


ردَّ الإنجليزي ببعض التهوُّر: «حسنًا، لقد كنتُ على شفا الموت عشر مرات، ولا أهتمُّ كثيرًا بمتى تحينُ ساعتي، ولكن إلى أن يحينَ ذلك الوقتُ سأشرب الويسكي كلما استطعت الحصول عليه.»


أعلن الطبيب: «الطاهي يُعِدُّ لك بعض الغذاء، وسيفيدك أن تأكل. لا يمكنني إعطاؤك ويسكي في هذه اللحظة، ولكن يمكنك الحصول على بعض النبيذ الألماني الأبيض والمياه الغازية مع أوراق الغار.»


كان الردُّ الحماسي: «أرسِل في طلبها.» وتابع: «فأنا أمتلك بِنْية قوية، أيها الطبيب! ورائحة ذلك الطهي في الخارج تجعلني جائعًا جدًّا.»


كان التأكيد المطمْئنُ: «لن تظلَّ بِنيتك سليمة إذا لم تحترمها.»


استفسر دوميني: «هل سمعت أيَّ شيء عن بقية مجموعتي؟»


أخبره الطبيب: «جرفَت المياهُ بعضَ جثث العساكر الأفارقة من النهر، وأكلت الأسودُ اثنين من خيولك. أستميحك عذرًا. لديَّ جروح عليَّ أن أعالجها لأحد السكان الأصليين، الذي عضَّه نَمرٌ مرقَّط الليلةَ الماضية.»


استلقى المسافر، بعد أن تُرك وحدَه، دون حركةٍ في الكوخ، وطافت أفكارُه في الماضي. نظر إلى المنطقة الجرداء المغطَّاة بالشجيرات القصيرة التي أُخلِيَت من أجل هذا المعسكر حتى مجموعة الأجمات والشجيرات المزهِرة وراءها، التي كانت غامضة ولا يمكن اختراقُها باستثناء مسار الفيَلَة الوعر الذي كان قد سافر على امتداده؛ إلى النهر الواسع، الأزرقِ مثل السماء أعلاه، وإلى الجبال التي تتلاشى في الضباب وراءها. كان وجهُ مضيفه قد أعاده إلى الماضي. وأثارت ذكرياتٌ حائرة شريطَ الذاكرة. ولم يتذكَّر إلا لاحقًا في وقت العشاء، عندما جلس ثلاثتُهم، هو والقائد والطبيب، على طاولةٍ صغيرة وُضِعَت خارج الكوخ، حتى يتمكَّنوا من الاستمتاع بالنَّسمات الرقيقة القادمة من الجبال، معلنةً حلولَ الظلام سريعًا. أخذ الخَدَم من السكان الأصليين يعملون على تهويتهم بمراوحَ من خشب الخيزران لإبعاد الحشرات، وكان الهواء خانقًا إلى حدِّ الإضرار بالصحة، مع عطر بعض الشجيرات الغريبة الباعثة على الغثيان.


هتف فجأةً: «يا إلهي، أنت ديفينتر! سيجيسموند ديفينتر! كنتَ معي في إيتون — منزل هوروك — نصف نهائي لعبة مضرب التنس.»


«ومجدلين بعد ذلك، رقم خمسة في القارب.»


«ولماذا، بحق الشيطان، أخبرَني الطبيب هنا أن اسمك هو فون راجاشتين؟»


كان الردُّ الموزون إلى حدٍّ ما: «لأن هذه هي الحقيقة.» وأضاف: «ديفينتر هو اسم عائلتي، وهو الاسم الذي عُرِفتُ به عندما كنتُ في إنجلترا. ومع ذلك، عندما ورثتُ البارونية والممتلكات عند وفاة عمي، اضطُررت أيضًا إلى الحصول على اللقب.»


هتف دوميني: «حسنًا، إنه عالم صغير!» وتابع يسأل: «ما الذي أتى بك إلى هنا حقًّا؛ الأسُود أم الأفيال؟»


«لا هذا ولا ذاك.»


«هل تقصد أن تقول إنك قد امتهنتَ هذا النوع من العمل السياسي لذاته وليس من أجل الصيد؟»


«هكذا تمامًا. فأنا لا أستخدم بندقيةَ صيدٍ مرةً كل شهر، إلا للضرورة. فقد جئتُ إلى أفريقيا لأسباب مختلفة.»


تجرَّع دوميني جرعةً كبيرة من نبيذه الألماني الأبيض والمياه الغازية ومال بظهره إلى الوراء، وأخذ يُراقب اليَراعات وهي ترتفع فوق العُشب الطويل، فوق مجموعات من الشجيرات القصيرة المكتظَّة، وتتدلَّى مثل نجومٍ صغيرة في الهواء البنفسَجيِّ الصافي.


ناجى نفسَه: «يا له من عالم!» وتابع: «سيجي ديفينتر، البارون فون راجاشتين هنا يَستعبد ويُدرِّب الزنوج، لسببٍ لا يعلمه إلا الرب؛ لمحاربة كِيانٍ سياسي، على ما أفترض، لا يعلمه إلا الرب، وسيكون الحاكمَ العامَّ المستقبلي لأفريقيا الألمانية، أليس كذلك؟ كنتَ دائمًا فخورًا ببلدك، يا ديفينتر.»


كان الردُّ الرصين: «بلدي بلدٌ يُفتخَرُ به.»


تابع دوميني: «حسنًا، أنت جاد، على أي حال، جادٌّ بشأن شيءٍ ما. وأنا … حسنًا، لقد انتهى أمري. كان من الممكن أن ينتهيَ كلُّ شيء الليلةَ الماضية لو لم أرَ الدخان المنبعث من نيرانكم، ولا يُهمني كثيرًا؛ هذه هي المشكلة. فأنا مستمرٌّ في ارتكاب الحماقات. أفترض أن النهاية ستأتي بطريقةٍ ما، في وقتٍ ما؛ هل يمكنني الحصول على بعض الرَّم أو الويسكي، يا ديفينتر؛ أعني يا فون راجاشتين، معاليك، أو أيًّا كان ما يتعينُ عليَّ قولُه؟ أترى حلقات الضباب تلك على ضفاف النهر؟ ستُمثِّل ملاريا لي ما لم أحصل على شراب كحولي.»


أجاب فون راجاشتين: «لدي شيء أفضل من كلٍّ منهما.» وأضاف: «ويجب أن تُعطيني رأيك فيه.»


تلقَّى الخادم الذي كان يقف خلف مقعد سيده أمرًا هامسًا، واختفى في كوخ المؤن، وعاد على الفور بزجاجةٍ شهق الرجلُ الإنجليزي عند رؤيتها.


هتف: «نابليون!»


أوضح مضيفه: «بضع زجاجات فقط كنتُ قد أَرْسَلْتُها لنفسي.» وأضاف: «ويسعدني أن أقدِّمَها لشخصٍ سيُقدِّرها.»


قال دوميني، وهو يَسكب منها الشراب في كأسه: «بحقِّ الرب، لا خطأ في ذلك!» وتابع: «يا له من عالم! لم أكن قد أكلتُ منذ ثلاثين ساعةً عندما وصلت إلى هنا الليلة الماضية، ولم أشرب شيئًا عدا الماء القذر لعدة أيام. والليلة، أتناول يخني الدجاج، والخبزَ الأبيض، ونبيذًا ألمانيًّا أبيضَ فاخرًا، وبراندي نابليون. وغدًا أيضًا … حسنًا، مَن يدري؟ متى ستُتابع مسيرك، يا فون راجاشتين؟»


«ليس قبل عدة أيام.»


سأل ضيفه بفضول: «بحق الجحيم ما الذي يمكنك أن تفعله بعيدًا عن المركز الرئيسي، إذا لم تُطلق النار على الأُسود أو الأفيال؟»


أجاب فون راجاشتين: «إذا كنتَ ترغب حقًّا في أن تعرف، أزعجُ عملاءكم السياسيِّين كثيرًا بالانتقال من مكانٍ إلى آخر؛ لأجمعَ السكان الأصليِّين من أجل التدريب العسكري.»


استمرَّ دوميني: «ولكن ما الذي تريد أن تدرِّبهم عسكريًّا من أجله؟» أضاف: «سمعت منذ مدةٍ أن عدد السكان الأصليين المستعدِّين للقتال لديك يبلغُ أربعةَ أضعافِ العددِ لدينا. أنت لا تريد جيشًا هنا. من غير المحتمل أن تُحاربنا أو تحارب البرتغاليين.»


صرَّح فون راجاشتين بأسلوبٍ تلقينيٍّ قليلًا: «من عادتنا، في ألمانيا وفي أيِّ مكان نذهب إليه نحن الألمانَ، أن نكون مستعدِّين ليس فقط لما هو من المرجَّح أن يحدث وإنما لما يُحتمَل أن يحدث.»


قال دوميني مستغرقًا في التفكير: «ربما لو كنتُ شاركتُ في حربٍ في أيام شبابي، عندما كنتُ في الجيش، ربما كانت ستجعل مني رجلًا.»


«هل كان لديك حقًّا فرصةٌ هنا؟»


هزَّ دوميني رأسه.


وقال: «لم تُغادر كتيبتي البلادَ قط. كنا محتجَزِين في أيرلندا طوال الوقت. كان ذلك هو سببَ تركي للجيش عندما كنت حقًّا مجردَ صبي.»


في وقتٍ لاحق سحبا مقاعدهما بعيدًا أكثرَ قليلًا في الظلام، ودخَّنا السيجار وشربا بعضَ القهوة الرائعة. كان الطبيب قد انصرف لرؤية مريض، وكان فون راجاشتين غارقًا في أفكاره. على الناحية الأخرى، استمر ضيفُهم في التنقُّل من موضوع لآخر مستعيدًا الذكريات.


وعلَّق، وهو يمدُّ يده بتكاسلٍ ليأخذ كأسه: «من شأن لقائنا أن يكون مثيرًا للاهتمام البالغ من قِبَل الطبِّ النفسي. ها نحن أولاء، جمَعتْنا صدفةٌ إعجازية لقضاء ليلة واحدة من حياتنا في غابة أفريقية، اثنان من البشر من نفس العمر نشَآ معًا على بُعد آلاف الأميال، يهرُبان نحو الظلام الأبدي على طول خطوطٍ متباعدة بقدرِ ما يمكن للعقل أن يتصوَّر.»


غمغم فون راجاشتين: «عيناك ثابتتان على ذلك الظلامِ الذي ستُشرق من خلفِه الشمسُ عند الفجر. ستراها تَبزُغ من وراء الجبال في تلك البقعةِ بالتحديد، مثل عالمٍ جديد ومتوهِّج.»


اعترض رفيقه بفظاظة: «لا تَصرِف انتباهي بالاستعارات.» وأردف: «فالظلام الأبدي موجودٌ بالفعل، حتى لو كان تعبيري المجازيُّ خاطئًا. وأنا أميل إلى أن أكون فلسفيًّا. فاسمحْ لي أن أكمل ثرثرتي. ها أنا ذا، كسولٌ في طفولتي، باحثٌ عن المتعة، غيرُ مؤذٍ في شبابي إلى أن واجهتُ مأساةً، ومنذ ذلك الحين، أصبحتُ متسكِّعًا، متسكِّعًا ذا رذيلة تنمو ببطء، يسترخي في الحياة دون هدفٍ محدَّد، دون أمل أو أمنية محددَين، ما عدا»، وتابع وهو ينعَس قليلًا، «أنني أظن أني أودُّ أن أُدفَن في مكانٍ ما بالقرب من سَفْح تلك الجبال، على الجانب الآخر من النهر، الذي تُشرق من ورائه الشمس كما تقول كلَّ صباح مثل عالم متوهَّج.»


احتجَّ فون راجاشتين: «أنت تتحدَّث بحماقة.» وأضاف: «إن كانت ثمة مأساةٌ في حياتك، فلديك الوقت لتتجاوزها. أنت لم تبلغ الأربعين من العُمُر بعد.»


تابع دوميني متجاهلًا تمامًا ملاحظةَ صديقه: «ثم ألتفتُ وأتأمَّل حالك.» وتابع: «أنت في مثلِ عمري، وتبدو أصغرَ بعشر سنوات. عضلاتك قوية، وعيناك تلمعان كما كانتا في أيام المدرسة. أنت تتصرَّف مثل رجلٍ لديه هدف. أخبرَني الطبيب أنك تستيقظ الساعة الخامسة كلَّ صباح، وتعود إلى هنا، منهَكًا، عند الغسَق. أنت تُمضي كلَّ لحظة من وقتك في تدريب أولئك الزنوج القذرين. وعندما لا تفعل ذلك، تستكشف الأراضيَ، وتُشرف على التقارير المرسَلة إلى الوطن، محاولًا تحقيقَ أقصى استفادة من بضعة ملايين من الأفدنة من المستنقعات القذرة المسبِّبة للحُمى. والطبيب معجبٌ بك جدًّا، ولكن مَن يدري؟ لماذا تفعل هذا يا صديقي؟»


كان الرد الهادئ: «لأنه واجبي.»


«واجبك! ولكن لماذا لا يمكنك تأدية واجبك في بلدك، وتَسعد بحياتك، وتُدرِّب رجالًا بِيضًا، وتتعرَّف على نساء بيضاوات؟»


أجاب فون راجاشتين: «أذهب إلى حيث يكون وطني في أمسِّ الحاجة إليَّ.» وأضاف: «أنا لا أستمتع بتدريب السكان الأصليِّين، ولا أستمتع بمرور السنوات وأنا منبوذٌ من مَسرَّات الحياة البشرية العادية. لكني أتبع قدَري.»


ضحِك دوميني ساخرًا: «وأنا أتبع السراب.» وأردف: «كل شيء واضحٌ جدًّا. قد تكون متبلدَ الحس — فقد كنتَ دائمًا جادًّا — لكنك رجلٌ صاحب مبدأ. وأنا رجل كسول.»


أبدى فون راجاشتين رأيه قائلًا: «الفرق بيننا هو شيء غُرِسَ في شباب بلدِنا ولم يُغْرَس في شبابكم. في إنجلترا، بقليل من المال، وقليلٍ من النَّسَب، يتوقَّع الشبابُ لديك أن يجدوا العالَم ملعبًا للتسلية، وحديقةً للأحبَّاء. أعظم نبيل ألماني عاش على الإطلاق لديه عمل يؤدِّيه. فالعمل هو ما يصنع الهيكل الأساسي الذي يُعطي التوازن للحياة.»


تنهَّد دوميني. كان سيجاره باردًا بين إصبَعيه، مع أنه كان ذا قيمة كبيرة للغاية. في تلك الظُّلمة العطرة، التي لم يكن يُضيئُها سوى الضوء الخافت للمصباح المظلَّل في الخلف، بدا وجهه فجأةً شاحبًا ومسنًّا. انحنى مضيفه تجاهه وتحدَّث لأول مرة بنبرات شبابهما اللطيفة.


«لقد ألمحتَ إلى مأساةٍ يا صديقي. أنت لستَ وحدك. فالمأساة دخلتْ حياتي أيضًا. ربما لو سارت الأمور على خلاف ذلك، لوجدتُ عملًا في أماكنَ أكثر بهجة، لكن الحزن حلَّ بي، وها أنا ذا هنا.»


أضاءت ومضةُ تعاطف سريعة وجهَ دوميني.


تأوَّه قائلًا: «لقد واجهنا ابتلاءاتٍ بطريقة مختلفة.»





الفصل الثاني

نام دوميني حتى وقتٍ متأخر من صباح اليوم التالي، وعندما استيقظ أخيرًا من سُباتٍ طويل بلا أحلام، شعر بهدوءٍ يُثير الفضولَ في المخيَّم. وفسَّر الطبيبُ، الذي جاء لرؤيته، ذلك فورًا بعد تحيته الصباحية.


وأعلن: «لقد تلقَّى معاليه تقاريرَ مهمة من الوطن. وذهب للقاء مبعوثٍ من دار السلام. وسيغيب لمدة ثلاثة أيام. وأراد أن تبقى ضيفَه حتى عودته.»


غمغم دوميني: «هذا لطفٌ كبير منه.» وأردف يسأل: «هل توجد أيُّ أخبار من أوروبا؟»


كان الرد متبلدَّ الحس: «لا أعرف. طلب مني معاليه أن أبلغك أنه إذا كنتَ ترغب في الخروج في رحلة قصيرة على ضفاف النهر، جنوبًا، فإنه يوجد عشرات الصِّبيان الباقين وبعض الخيول. يوجد الكثير من الأُسود، وربما تُقابل وحيد القرن في مكان أو مكانين يعرفهما السكان الأصليون.»


اغتسل دوميني وارتدى ملابسه، وارتشف قهوته الممتازة، وتجوَّل بتكاسل في المكان شاعرًا بالحيرة. أفضى بهمومه للطبيب بينما كانا يشربان الشايَ معًا في وقت متأخر بعد الظهر.


اعترف: «أنا لستُ مولعًا بالصيد على الإطلاق، وأشعر بأنني متطفِّل مروِّع، لكن على الرغم من ذلك، لديَّ شعور غريب بأنني أرغب في رؤية فون راجاشتين مرةً أخرى. أنا بالأحرى مفتون برئيسك الصامت، أيها الطبيب. إنه رجل. لديه شيء فقدته.»


أعلن الطبيب بحماس: «إنه رجل عظيم. يُنفِّذ ما يُخطِّط لفعله.»


تنهَّد دوميني: «أفترض أنني كنت سأكون هكذا لو كان لديَّ حافز. هل لاحظت الشبهَ بيننا أيها الطبيب؟»


أومأ الأخير برأسه إيجابًا.


أقر: «لاحظته منذ اللحظة الأولى لوصولك.» وأردف: «بينكما شبهٌ كبير للغاية، ولكنكما مختلفان جدًّا. لا بد أن التشابه كان أبرز في شبابكما. لقد تعامل الزمن مع ملامحك وفقًا لأفعالك.»


احتجَّ دوميني بانفعال: «حسنًا، لستُ بحاجة إلى أن تزيدَ الطين بِلَّة.»


أجاب الطبيب بهدوء تام: «أنا لا أزيد شيئًا.» وأردف: «إنني أقول الحقيقة. لو كنتَ تمتلك العزيمةَ الأخلاقية نفسَها التي يتمتَّع بها معاليه، لربما حافظتَ على صحتك والأشياء المهمة. ولربما أصبحت مفيدًا لبلدك كما هو مفيد لبلده.»


«أفترض أنني ضعيف جدًّا، أليس كذلك؟»


«لقد أسأتَ معاملةَ جسدك. ومع ذلك، لا يزال لديك الكثير من الحيوية. إذا اهتممتَ بممارسة ضبط النفس لبضعة أشهر، فستصبح رجلًا مختلفًا. بعد إذنك. لديَّ عمل.»


أمضى دوميني ثلاثة أيام مضطربة. حتى مشهدُ قطيعٍ من الأفيال في النهر وتلك الأصواتُ الليلية الغريبة الرهيبة، لمَّا كانت الوحوش تتسلل بلا ضوضاء حول المخيَّم، فشلت في التأثير فيه. في الوقت الحالي، بدا حبُّه للصيد، وهو آخر ما كان يتمسَّك به في عالم الأشياء الحقيقية، هامدًا. ما الفائدةُ التي ستُجنى، بطريقةٍ أو بأخرى، من وراء قتلِ حيوان؟ كان عقله مركِّزًا بقلق على الماضي، باحثًا دائمًا عن شيءٍ فشل في اكتشافه. عند الفجر، راقب ميلاد اليوم الجديد المتحوِّل الرائع بغرابة، وفي الليل جلس خارج المنزل المصنوع من القش، منتظرًا حتى فقدت الجبال على الجانب الآخر من النهر شكلَها وتلاشت في الظلام البنفسجي. كانت محادثته مع فون راجاشتين قد أزعجته. ودون أن يعرف السببَ بالتحديد، أراد عودته مرةً أخرى. الذكريات التي كانت قد توقَّفت منذ مدة طويلة عن تعذيبه كانت تجد طريقها مرةً أخرى إلى دماغه. في اليوم الأول سعى جاهدًا للتخلُّص منها بالطريقة المعتادة.


سأل: «أيها الطبيب، لديك بعض الويسكي، أليس كذلك؟»


أومأ الطبيب برأسه.


واعترف قائلًا: «هناك حقيبةٌ في مكانٍ ما.» وأضاف: «قال لي سيادته ألا أرفض لك طلبًا، لكنه ينصحك بشرْب النبيذ الأبيض فقط حتى عودته.»


«هل ترك تلك الرسالةَ حقًّا؟»


«بالضبط كما سلَّمتها.»


تلاشت الرغبةُ في الويسكي، وعادت مرةً أخرى، لكنه كبَحها، وعادت في الليل حتى إنه جلس منتصبًا والعَرقُ يتصبَّب على وجهه ولسانه جافٌّ. وشرب مياهًا معدِنيةً بدلًا منه. في وقتٍ متأخِّر من بعد ظهيرة اليوم الثالث، دخل فون راجاشتين إلى المخيم على حِصانه. كانت ملابسه ممزَّقة ومبلَّلة بطين المستنقعات الأسود، وكان وجهه ملطَّخًا بالغبار والأوساخ. وكاد حصانه أن ينهار وهو يقفز من عليه. ومع ذلك، توقَّف لتحية ضيفه بلطفٍ شديد، كان ثَمة بريقٌ من الرضا الحقيقي في عينيه عندما تصافح الرجلان.


قال بحرارة: «أنا سعيد لأنك ما زلت هنا.» وتابع: «فلتعذرني حتى أغتسل وأغيِّر ملابسي. سوف نتناول العشاء في وقتٍ أبكرَ بقليل. فحتى الآن لم أتناولْ شيئًا اليوم.»


سأل دوميني بفضول: «هل كانت رحلة طويلة؟»


كان الرد الهادئ: «لقد سافرتُ بعيدًا.»


في وقت العشاء، عاد فون راجاشتين لطبيعته مرةً أخرى، مرتديًا ملابسَ بيضاء، من الكتان النظيف، حليق الذقن، ولم يتبقَّ على محيَّاه سوى قدرٍ قليل من التعب. ولكن كان ثمة شيءٌ مختلِف في أسلوبه؛ بعض التغيير الذي حيَّر دوميني. كان على الفور أكثرَ اهتمامًا بضيفه، لكنه كان أكثرَ انعزالًا عنه من حيث الروحُ والتعاطف. واصل التحدُّث بإصرارٍ فضولي عن أحداث أيام مدرستهما وكليَّتهما، وعن موضوع أصدقاء دوميني وعلاقاته، والوقائع اللاحقة في حياته. شعر دوميني طَوال الوقت بتشجيعٍ نابع من نفسه على التحدُّث عن حياته السابقة، وطوال الوقت كان يُدرك أن مضيفه، لسببٍ ما أو لآخر، كان يولي أقصى وأكبرَ اهتمام بأتفهِ كلمة يقولها. قُدِّمَت الشمبانيا بلا حدٍّ، وكان دوميني يتحدَّث بحماسٍ دون تحفُّظ، دون أن يقترب من ذلك السر الذي كان يودُّ إخفاءه. بعد انتهاء الوجبة، سحبا كرسيَّيهما كالسابق إلى الخلاء. قدَّم الخادمُ الصامت سيجارًا أكبرَ، ووجد دوميني كأسه ممتلئة مرةً أخرى بالبراندي الرائع. كان الطبيب قد تركهما لزيارة المخيم الأصلي على بُعد ربع ميل تقريبًا، وكان الخادم مشغولًا بالداخل، يُنظف الطاولة. بالكاد كان يمكن رؤية الخَدم وهم يحرِّكون مراوحهم — وفوقهم كانت النجوم المتلألئة. كانا وحدهما.


قال دوميني: «لقد تحدثتُ كثيرًا عن حماقاتي.» وأردف يسأل: «هلَّا أخبرتني قليلًا عن حياتك المهنية الآن، وحياتِك في ألمانيا قبل مجيئك إلى هنا؟»


لم يردَّ فون راجاشتين على الفور، وسرى بين الرجلين صمتٌ غريب. بين الحين والآخر كان نجمٌ يعبُر السماء. ارتفعت الحافة الحمراء للقمر إلى أعلى قليلًا من خلف الجبال. بدا وكأنَّ سكون الأدغال، الذي كان دائمًا أكثرَ حالات الصمت غموضًا، أصبح مشحونًا تدريجيًّا بشغفٍ صامت. سرعان ما بدأت الحيوانات في إطلاق صيحاتها من حولهما، زاحفة مقتربة شيئًا فشيئًا من النار التي اشتعلت عند نهاية المنطقة المكشوفة.


أخيرًا، قال فون راجاشتين متحدِّثًا بأسلوبِ رجلٍ قضى الكثير من الوقت في التفكُّر: «صديقي، تُحدِّثني عن ألمانيا، عن وطني. ربما خمَّنتَ أنه ليس الواجبُ وحدَه هو الذي أوصلني إلى هذه الأماكنِ البرِّية. أنا أيضًا خَلَّفتُ ورائي مأساةً.»


كبح القمعُ الصارم الذي يكاد يكون قاسيًا لأسلوب الرجل الآخر اندفاعَ دوميني السريع للتعاطف. بدت الكلمات وكأنها تخرج مُنتزَعةً من حلْقه. لم تكن توجد أيُّ شرارة من الحنان أو النَّدم على وجهه الثابت.


تابع قائلًا: «منذ يوم نفيي، لم أنطِق بكلمة عن هذا الأمر. والليلةَ لا يُهاجمني الضَّعف، بل الرغبةُ في الاستسلام للتأثير الغريب للصدفة. فأنت وأنا زملاءُ دراسة وأصدقاءُ من الكلية، رغم أننا من بلدَين مختلفين، نلتقي هنا في البرِّية، وكلٌّ منَّا يشعُر بمرارةٍ داخله. سأخبرك بما حدث لي، وستتحدَّث إليَّ عن لعنتك.»


تأوَّه دوميني: «لا أستطيع!»


كان الردُّ الصارم: «لكنك ستفعل.» وأضاف: «أنصِت.»


ومرَّت ساعةٌ وتوقَّف صوتا الرَّجلين. انخفض عواء الحيوانات مع انطفاء النيران، وكان يمر عبر الشجيرات نسيمٌ بطيء وكئيب يضرِب سطح النهر. كان فون راجاشتين هو الذي اخترق ما كان يبدو وكأنه غشية. نهض واقفًا، واختفى داخل المنزل المصنوع من القش، وظهر مرةً أخرى بعد لحظة أو لحظتين حاملًا قدحَين. وضع أحدهما في المكان المخصَّص له في ذراع مقعد ضيفه.


وأعلن: «الليلة سأخالفُ ما صار إحدى قواعدي.» وأردف: «وسأشرب ويسكي وصودا. سأشرب نَخب الأشياء الجديدة التي قد تأتي لكلٍّ منَّا مستقبلًا.»


سأل دوميني بفضول: «هل تتخلَّى عن عملك هنا؟»


كان الردُّ المراوغ إلى حدٍّ ما: «أنا جزء من نظام عظيم.» وأضاف: «لا أملِك سوى الطاعة.»


شوَّه وجهَ دوميني وميضٌ من العاطفة، الذي توهَّج لحظةً في نبرة صوته.


وسأل: «هل أنت راضٍ بالعيش والموت على هذا النحو؟» وتابع: «ألا تريد العودة إلى حيث سيُدفئ قلبَك ويملأ نبضاتِك شمسٌ مختلفة؟ هذا العالم البدائي هائل بطريقته الخاصة، لكنه ليس بشريًّا، وهذه ليست حياةً يعيشها البشر. نريد شوارع، يا فون راجاشتين، أنت وأنا. نريد أن نرى أناسًا يسيرون حولنا، نريد أن نسمعَ هدير العجلات وهمهمة أصوات البشر. اللعنة على هذه الحيوانات! لو عشتُ في هذا البلد مدةً أطول، فسأمشي على أربع.»


علَّق رفيقه: «أنت تستسلم كثيرًا للبيئة المحيطة.» وأردف: «ستكون عاطفيًّا لو عشتَ في المدينة.»


تنهَّد دوميني قائلًا: «لن تعترف بي أيُّ مدينة أو أيُّ بلد متحضِّر مرةً أخرى.» وتابع: «ولن أمتلك مطلقًا الشجاعةَ لمواجهةِ ما قد يحدث.»


نهض فون راجاشتين واقفًا. كانت الصورة القاتمة لقامته المنتصبة مهيبةً بطريقةٍ ما. بدا وكأنه طويل جدًّا بالمقارنة بالرجل الذي كان يستلقي على الكرسي أمامه.


وقال متوسِّلًا: «أنْهِ الويسكي والصودا حتى لقائنا القادم، يا صديقَ أيامِ الدراسة.» وأضاف: «غدًا، قبل أن تستيقظ، سأكون قد رحلتُ.»


«بهذه السرعة؟»


أجاب فون راجاشتين: «بحلول ليلة الغد، يجب أن أكون على الجانب الآخَر من تلك الجبال. لهذا يجب أن أودعك.»


كان دوميني متبرِّمًا، ويكاد يكون مثيرًا للشفقة. شعرَ بكراهية مفاجئة للوحدة.


احتجَّ قائلًا: «أنا أيضًا يجب أن أسافر مباشرةً نحو الغرب أو الشرق أو الشمال — لا يُهم كثيرًا. ألا يمكننا السفر معًا؟»


هزَّ فون راجاشتين رأسه نفيًا.


وأجاب: «أنا أسافر بصفةٍ رسمية، ويجب أن أسافر بمفردي. أما فيما يتعلق بك، فسيُغادرون من هنا غدًا، لكنهم سيقدِّمون لك مرافقًا ويوجِّهونك للاتجاه الذي ترغب في أن تسلُكه. هذا، للأسف، أقصى ما يُمكنني فعله من أجلك. بالنسبة إلينا، هذا وداعٌ بيننا.»


قال دوميني ببعض الحزن: «حسنًا، لا يمكنني أن أفرض نفسي عليك.» وتابع: «يبدو غريبًا، رغم ذلك، أن نلتقيَ هنا، بعيدًا حتى عن طرق الحياة الفرعية، لمجردِ أن نتصافح ونمضيَ قُدُمًا. لقد سئمتُ إلى أقصى حدٍّ من الزنوج والحيوانات.»


قرَّر فون راجاشتين: «إنه القدَر.» وأضاف: «حيثما أنا ذاهب، يجب أن أذهب وحدي. الوداع يا صديقي العزيز! سنشرب النَّخب الذي شربناه في ليلتنا الأخيرة في جَناحك في مجدلين. ذلك الرجل السنسكريتي ترجمها لنا: «فليجدْ كلُّ واحدٍ ما يسعى إليه!» يجب أن نتبع أقدارنا.»


ضحِك دوميني بقليل من المرارة. وأشار إلى ضوءٍ يتوهَّج متقطعًا في الدَّغَل.


تمتم باستهتار: «سرابي يقودني إلى حيثما يجب أن أتبعه — إلى المستنقعات!»


بعد بضعِ دقائق ألقى دوميني بنفسه على أريكته، وهو يشعر بالنُّعاس على نحوٍ غريبٍ وغير مفهوم. وقف فون راجاشتين، الذي كان قد جاء ليتمنَّى له ليلةً سعيدة، ينظر إليه عدة لحظات باهتمام كبير. بعد ذلك، بعدما اقتنع بأن ضيفه نام حقًّا، استدار ومرَّ عبر ستارة الأعشاب الجافة المعلَّقة إلى المنزل التالي المصنوع من القش، حيث كان الطبيب، الذي كان لا يزال يرتدي كاملَ ملابسه، في انتظاره. تحدَّثا معًا باللغة الألمانية وبأصواتٍ منخفضة. كان فون راجاشتين قد فقدَ بعضًا من رِباطة جأشه.


وسأل: «هل يسير كلُّ شيء وفقًا لأوامري؟»


«كل شيء، معاليك! يتم تحميل الصبيان، وذهب مبعوثٌ إلى وديهوان لتجهيز الخيول.»


«هل يعرفون أنني أرغبُ في التحرُّك عند الفجر؟»


«الجميع سيكون جاهزًا، معاليك.»


وضع فون راجاشتين يدَه على كتفِ الطبيب.


وقال: «تعالَ إلى الخارج، شميدت.» وأضاف: «لديَّ شيء أودُّ أن أخبرك به عن خططي.»


جلس الرجلان على الكرسيَّين الطويلين من الخيزران، وكان الطبيب في حالة انتباه شديد. أدار فون راجاشتين رأسه وأنصت. جاء من مسكن دوميني صوتُ تنفُّس عميق ومنتظم.


تابع فون راجاشتين: «لقد وضعتُ خطةً رائعةً، يا شميدت. هل تعلم أيَّ أخبار وصلتني من برلين؟»


ذكَّره الطبيب: «معاليك لم تُخبرني إلا القليل.»


قال فون راجاشتين وصوته يرتجف بانفعالٍ شديد: «لقد حان اليوم.» توقَّف لحظةً مفكِّرًا وتابع: «الوقت، حتى الشهر، تم تحديده. استُدعيتُ من هنا لأتولَّى المكانَ الذي كان مقدَّرًا لي. هل تعرفُ ما هذا المكان؟ هل تعرف لماذا أُرسِلتُ إلى مدرسة وكليَّة إنجليزيتَين حكوميتَين؟»


«أستطيع أن أخمِّن.»


«سأقيم في إنجلترا. لديَّ مهمة خاصة. سوف أجد لي مكانًا هناك بوصفي إنجليزيًّا. الوسائل متروكة لابتكاري. اسمع، يا شميدت. لقد خطرتْ لي فكرةٌ رائعة.»


أشعل الطبيب سيجارًا.


«كلي آذان مصغية، يا صاحب المعالي.»


نهض فون راجاشتين واقفًا. غيرَ قانع بصوت ذلك التنفُّس المنتظم، مضى إلى مدخل المنزل المصنوع من القش وحدَّق في جسد دوميني النائم. ثم عاد.


سأل الطبيب: «هل هذا شيء لا ترغب في أن يسمعه الإنجليزي؟»


«نعم.»


«نحن نتحدَّث باللغة الألمانية.»


كان الردُّ الحذِر: «يُصادَف أن الإنجاز الوحيد لهذا الرجل هو اللغات. فبإمكانه التحدُّثُ باللغة الألمانية بطلاقةٍ مثلك ومثلي. ومع ذلك، هذا ليس ذا أهمية. إنه نائم وسيستمر في النوم. لقد خلطتُ له منوِّمًا مع الويسكي والصودا.»


قال الطبيب بصوتٍ منخفض: «آه!»


أوضح فون راجاشتين: «حاجتي الأساسية في إنجلترا هي الهوية.» وتابع: «لقد اتخذتُ قراري. سوف آخذ هُوية هذا الإنجليزي. وسأعود إلى إنجلترا بصفتي السير إيفرارد دوميني.»


«هكذا إذن!»


«ثمَّة تشابه ملحوظ بيننا، ودوميني لم يرَ رجلًا إنجليزيًّا يعرفه منذ ثماني أو عشْر سنوات. سوف أكون قادرًا على إقناع أيِّ أصدقاء من المدرسة أو الكلية قد ألتقي بهم. لقد أقمتُ عند دوميني. وأعرف أقاربَ دوميني. كان يُثرثر الليلة لساعات، وأخبرني بأشياءَ كثيرةٍ من الجيد لي أن أعرفَها.»


«وماذا عن أقربائه المقرَّبين؟»


«ليس لديه مَن هو أقرب من أبناء عمومته.»


«أليس متزوجًا؟»


توقَّف فون راجاشتين وأدار رأسه. كان التنفُّس العميق داخل المنزل المصنوع من القش قد توقَّف بالتأكيد. نهض واقفًا، وتسلَّل بقلق حتى المدخل، وحدَّق في جسد ضيفه الممدَّد. بحسب كل الدلائل، كان دوميني لا يزال نائمًا بعمق. بعد دقيقة أو اثنتين من المراقبة، عاد فون راجاشتين إلى مكانه.


قال وهو يخفِض صوتَه قليلًا ليكشف السرَّ: «هنا تكمُن مأساته.» تابع: «إنها مجنونة … مجنونة، على ما يبدو، بسبب صدمةٍ هو مسئولٌ عنها. ربما كانت هي العقَبة الوحيدة، ولكنها لا تُمثل أيَّ خطورة.»


غمغم الطبيبُ بحماس: «إنها خطة عظيمة.»


«إنها رائعة! لا بد أن تلك القوة العظيمة والخفية، يا شميدت، التي ترعى بلادَنا وستجعلها سيدةَ العالم، هي التي قادت هذا الرجل إلينا. سيكون موقعي في إنجلترا فريدًا. وبصفتي السير إيفرارد دوميني، سأكون قادرًا على التغلغل في الدوائر الداخلية للمجتمع — ربما، حتى، للحياة السياسية. سأكون قادرًا، إذا لزم الأمر، على البقاء في إنجلترا حتى بعد انطلاق العاصفة.»


اقترح الطبيب: «لنفترضْ أن هذا الرجل دوميني عاد إلى إنجلترا؟»


أدار فون راجاشتين رأسَه ونظر نحو السائل.


وقال: «يجب ألا يفعل.»


غمغم الطبيب: «هكذا!»


في وقتٍ متأخر من بعد ظهر اليوم التالي، اتَّجه دوميني، مع اثنين من الصِّبية لمرافقته وبندقيته معلقةٌ على كتفه، نحو الأدغال في الطريق الذي كان قد جاء منه. ووقف الطبيب السمين القصير وراقبه وهو يُلوِّح بقبَّعته حتى غاب عن الأنظار. ثم دعا الخادم.


وقال: «هاينريش، هل أنت متأكد من أن الرجل الإنجليزي معه الويسكي؟»


أجاب الرجل: «زجاجات المياه غير مملوءة بأي شيء آخر، أيها السيد الطبيب.»


«ألا يوجد ماء أو صودا في الحقيبة؟»


«ولا قطرة أيها السيد الطبيب.»


«ما مقدارُ الطعام؟»


«حصصُ يوم واحد.»


«واللحم البقري مالح؟»


«مالحٌ للغاية أيها السيد الطبيب.»


«والبوصلة؟»


«غير مضبوطة بمقدار عشْر درجات.»


«هل تلقَّى الصبيَّان الأوامر؟»


«يفهمان بوضوح، أيها السيد الطبيب. إذا لم يشرب الإنجليزي، فسيأخذونه في منتصف الليل إلى حيث سيُخيِّم معاليه عند منحنى النهر الأزرق.»


تنهَّد الطبيب. لم يكن رجلًا قاسيَ القلب.


تمتم قائلًا: «أظن أنه سيكون من الأفضل للإنجليزي أن يشرب.»





الفصل الثالث

حدَّق السيد جون لامبرت مانجان من جمعية لينكولن للمحامين في البطاقة التي كان قد قدَّمها له للتو موظفٌ صغير بدهشةٍ مشدوهة، سرعان ما امتزجتْ بفزع.


وصاح قائلًا، وهو يمرِّرها إلى مديره الذي كان يتشاور معه: «يا إلهي، هل ترى هذا يا هاريسون؟» وتابع: «دوميني — السير إيفرارد دوميني — عاد إلى هنا في إنجلترا!»


نظر كبيرُ الموظَّفين إلى قطعة الورق المقوَّى الصغيرة وتنهَّد.


وعلَّق قائلًا: «أخشى أنك ستجده عميلًا مزعجًا، يا سيدي.»


عبَس صاحب العمل. وأجاب بحدَّة: «بالطبع سيكون كذلك.» وأضاف: «لا يوجد فلس إضافي يمكن الحصول عليه من الممتلكات — أنت تعرف ذلك، يا هاريسون. إن حصة الرُّبعين الأخيرَين التي أرسلناها إلى أفريقيا جاءت من الأشجار. لماذا بحق الجحيم لم يبقَ حيث كان؟!»


سأل الفتى: «ماذا أقول للسيد المحترم، يا سيدي؟»


أمره السيد مانجان بغضب: «أوه، دعْه يدخل!» وأردف: «أفترض أنني سأُضطرُّ إلى رؤيته عاجلًا أو آجلًا. سأنهي هذه الإقرارات بعد الغَداء، يا هاريسون.»


سيطر المحامي على ملامحه للترحيب بالعميل الذي، مهما كانت شئونه مزعجة، كان لا يزال يُمثِّل عائلةً كانت من الموكلين المهمِّين للشركة لعدة أجيال. وكان يستعد لتحيةِ شخصٍ رثِّ المظهر ومنحلٍّ، يبدو أكبرَ من سنِّه. وبدلًا من ذلك، وجد نفسه يمدُّ يده إلى واحدٍ من أوسم الرجال الذين تخطَّوا عتبة مكتبه غيرِ الجذَّاب وأكثرِهم أناقة. للحظةٍ حدَّق في زائره، عاجزًا عن الكلام. ثم ظهرتْ بعض الملامح المألوفة؛ الأنف ذو الشكل الجيد، والعينان الرماديتان العميقتان إلى حدٍّ ما. مكَّنته هذه المفاجأة من إضفاء القليل من الحماسة الحقيقية على ترحيبه.


صاح: «عزيزي السير إيفرارد! هذه مفاجأة سارة غيرُ متوقَّعة على الإطلاق — غير متوقعةٍ على الإطلاق! من المؤسف أيضًا أننا أرسلنا بالبريد شيكًا بحصَّتك قبل بضعة أيام فقط. يا إلهي، اعذرني على قولِ هذا … كم تبدو بحال جيدة!»


ابتسم دوميني وهو يجلس على أحد المقاعد المريحة.


علَّق وفي نبرة صوته ملاحظةٌ خافتة من موكِّل أعادت مستمعَه إلى أيام والدِ عميله الحالي: «أفريقيا بلد رائع، يا مانجان.»


«إنها — فلتعذر ملاحظتي — قد فعلت أشياءَ رائعة لك، يا سير إيفرارد. دعني أرَ، لا بد أنه قد مرَّ أحدَ عشر عامًا منذ التقينا.»


نقر السير إيفرارد الطرَفَ الأمامي لحذائه البني الملمَّع بعنايةٍ بطرَف عصا المشي الخاصة به.


وغمغم محاولًا التذكُّر: «غادرتُ لندن، في أبريل، عام ألفٍ وتسعمائة واثنين. نعم، أحد عشر عامًا، يا سيد مانجان. أعتقد أنه شيء غريب أن أجد نفسي في لندن مرةً أخرى، كما أظن أنك تفهم، أليس كذلك؟»


غمغم المحامي: «بالضبط.» وأضاف: «كنت أتساءل فقط — أظن أنه يمكن إيقاف آخر حوالة نقدية أرسلناها إليك»، وأضاف بابتسامةٍ واثقة: «ليس لديَّ شك في أنك ستكون سعيدًا بقليل من المال المتوفر.»


كانت الإجابة المذهلة: «شكرًا، لا أظن أنني بحاجة إلى أيِّ شيء في الوقت الحالي.» وتابع: «سنتحدَّث في الشئون المالية لاحقًا.»


قرص السيد مانجان نفسَه مَجازيًّا. لقد كان يعرف موكلَه الحاليَّ حتى خلال أيام دراسته، وتلقَّى زياراتٍ كثيرةً منه في أوقاتٍ مختلفة، ولا يمكنه تذكُّرُ مرةٍ واحدة رفض فيها موضوع التمويل بهذه الطريقة اللامبالية جدًّا.


علَّق من أجل أن يقول شيئًا ما على وجه الخصوص: «أعتقد أنك تُفكِّر في الاستقرار هنا لبعض الوقت الآن، أليس كذلك؟»


كان الرد الجادُّ إلى حدٍّ ما: «لقد اكتفيتُ من أفريقيا، إن كان ذلك ما تعنيه.» وأضاف: «فيما يتعلَّق بالاستقرار هنا، حسنًا، هذا يعتمد قليلًا على ما ستخبرني به.»


أومأ المحامي برأسه.


وقال: «أظن أنه يمكنك أن تُريح نفسك تمامًا فيما يتعلَّق بمسألة روجر أنثانك. لم يُسْمَع عنه أيُّ شيء منذ اليوم الذي غادرتَ فيه إنجلترا.»


«ألم يُعثَر على جثته؟»


«ولا أي أثر لها.»


ساد صمتٌ قصير. نظر المحامي بتمعُّن إلى دوميني، ونظر له دوميني بتفحُّص بدوره.


سأل الأول أخيرًا: «وماذا عن الليدي دوميني؟»


كان الردُّ الحذِر إلى حدٍّ ما: «حالة سيادتها، كما أعتقد، لم تتغيَّر.»


تابع دوميني بعد توقُّف للحظة أخرى: «إذا كانت الظروف مواتية، أظن أنه من المحتمل جدًّا أن أقرِّر الاستقرارَ في قصر دوميني.»


بدا المحامي متشككًا.


وقال: «أخشى أن تُصاب بخيبةِ أمل كبيرة بسبب حالة الممتلكات، يا سير إيفرارد. كما أخبرتك مرارًا وتكرارًا في مراسلاتنا، فإن قائمة الإيجار، بعد خصم التسوية الخاصة بالليدي دوميني، لم تصل في أيِّ وقت إلى الفائدة على الرهون العقارية، وكان علينا تعويضُ الفرْق وإرسال حصتك إليك من عائدات الأشجار البعيدة.»


أجاب دوميني بعبوس: «هذا أمر مؤسف. ربما كان عليَّ أن أثقَ بك أكثر.» وأضاف: «بالمناسبة متى تلقيتَ رسالتي الأخيرة؟»


كرَّر السيد مانجان: «رسالتك الأخيرة؟ لم نحظَ بشرفِ سماع أخبارك، يا سير إيفرارد، منذ أكثر من أربع سنوات. كان الإشعار الوحيد الذي تلقَّيناه بأن مدفوعاتنا قد وصلت إليك هو القيد المدَين الذي وصلَنا بسرعة كبيرة جدًّا من بنك جنوب أفريقيا.»


اعترف هذا الزائر غيرُ المتوقَّع قائلًا: «بالتأكيد يقع اللوم عليَّ.» وأضاف: «من ناحية أخرى، كنت مشغولًا جدًّا. إذا لم يتصادف أن تكون قد سمعتَ أيَّ أقاويل من جنوب أفريقيا مؤخرًا، يا مانجان، أظن أنها ستكون مفاجأةً لك أن تعرف أنني كنت أجني قدرًا كبيرًا من المال.»


شهق المحامي: «تجني المال؟ أنت تجني المال يا سير إيفرارد؟»


علَّق دوميني بهدوء: «تصورتُ أنك ستندهش.» وتابع: «ومع ذلك، هذا ليس موضوعنا. الهدف الفِعلي من زيارتي لك هذا الصباح هو أن أطلب منك اتخاذَ الترتيبات اللازمة في أسرعِ وقتٍ ممكن لسداد الرهون العقارية الخاصة بممتلكات دوميني.»


كان السيد مانجان محاميًا من المدرسة الحديثة، هارو وكامبريدج، ونادي باث كلوب، ولعبة الراكيت بالمضرب واليد، بدلًا من الذهب والتنس في الحديقة. وبدلًا من قول «يا إلهي!» هتف «اللعنة!» وألقى نظَّارةً أحاديةً عصريةً للغاية من على عينه اليسرى، ومال إلى الخلف في كرسيِّه ويداه في جيبَيه.


تابع موكله: «لقد حظيتُ بثلاث أو أربع سنوات من الحظ السعيد. وجنيتُ أموالًا من مناجم الذهب، ومناجم الماس، والأراضي. أخشى أنني إذا بقيتُ في الخارج لمدة عام آخر، كنتُ سأتدهور تمامًا للمألوف وأعود مليونيرًا.»


غمغم السيد مانجان: «أهنِّئك من كل قلبي!» وأضاف: «فلتعذرني على اندهاشي الشديد، لكنك أولُ دوميني عرَفته على الإطلاق جنى فلسًا واحدًا من المال بأي شكل من الأشكال، ومما أتذكَّره عنك في إنجلترا — وأنا متأكِّد من أنك ستعذر صراحتي — لم أكن أتوقَّع مطلقًا أنك حاولتَ فعل شيء من هذا القبيل.»


ابتسم دوميني بمرح.


وقال: «حسنًا، إذا استفسرتَ من البنك المتحد الأفريقي، فستجد أن لديَّ رصيدًا ائتمانيًّا يزيد عن مائة ألف جنيه إسترليني. ولديَّ أيضًا مبلغٌ يزيد عن ذلك بقليل، مستثمَرٌ في مناجمَ من الدرجة الأولى. هلا تُسدي إليَّ معروفًا وتتفضَّل بتناول الغداء معي، يا سيد مانجان، وعلى الرغم من أن أفريقيا لن تكون أبدًا موضوعًا مفضَّلًا للمحادثة معي، إلا أنني سأخبرك ببعض مضارباتي.»


بحثَ المحامي عن قبَّعته.


وقال متلعثمًا: «سأرسل الصبيَّ للإتيان بسيارة أجرة.»


قال له هذا العميل المذهل: «لديَّ سيارةٌ بالخارج.» وتابع يسأل: «قبل أن نُغادر، هل يمكنك إصدارُ تعليمات لموظفك بإعداد قائمةٍ بالرهون العقارية الخاصة بممتلكات دوميني، مزودة بالتواريخ النهائية وقيم الاسترداد؟»


وعده السيد مانجان قائلًا: «سأترك تعليمات بهذا.» وأضاف: «أظن أن المبلغ الإجمالي أقلُّ من ثمانين ألف جنيه.»


كان دوميني يتجوَّل في المكتب، مما أثار قدْرًا كبيرًا من اهتمامِ طاقمِ الموظفين قليلِ العدد. انضم إليه المحامي على الرصيف خلال دقائق.


سأل دوميني: «أين سنتناول الغداء؟ أخشى أن أنديتي أصبحت قديمةً بعض الشيء. أنا أقيم في فندق كارلتون.»


قال السيد مانجان مقترحًا: «مطعم المشويات في كارلتون ممتاز للغاية.»


أجاب دوميني: «إنهم يحتفظون لي بطاولةٍ حتى الساعة الواحدة والنصف.» وأردف: «بالتأكيد يمكننا تناول الغداء هناك.»


انطلقا معًا في السيارة، وكان المسافر العائد يحدِّق طوال الوقت من النافذة إلى الشوارع المزدحمة، وكان المحامي غارقًا في أفكاره بعض الشيء.


قال الأخير، بينما كانا يقتربان من وجهتهما: «قبل أن أنسى، سير إيفرارد.» أضاف: «سيُسعدني أن أحظى بمحادثةٍ قصيرة معك قبل أن تنزلَ إلى مقرِّ إقامتك.»


«بشأن شيء محدَّد؟»


قال له المحامي ببعض الجدية: «بشأن الليدي دوميني.»


حلَّ وجومٌ على وجه رفيقه.


«هل تغيرَت سيادتها كثيرًا؟»


«جسديًّا، هي بصحة ممتازة، على ما أعتقد. عقليًّا، أعتقد أنه لا يوجد تغيير. لديها للأسف التحاملُ العنيف نفسُه الذي أخشى أنه كان من أثره مغادرتُك إنجلترا.»


قال دوميني بمرارة: «ببساطة، لقد أقسمَت أن تقتلني إذا نمتُ يومًا ما معها تحت سقفٍ واحد.»


أجاب المحامي على نحوٍ مراوغ: «أخشى أنه سيلزمها أن تخضع لمراقبةٍ صارمة.» وأضاف: «ومع ذلك، أظن أنه يجب إخبارك أن الوقت لا يبدو أنه قلَّل من كراهيتها المفجعة.»


سأل دوميني بنبرة موزونة: «هل ما زالت تعتبرني قاتِلَ روجر أنثانك؟»


«أخشى أنها تعتبرك كذلك.»


«وأظن أن الآخرين لديهم الفكرة نفسُها؟»


اعترف السيد مانجان: «لم يُحَلَّ اللغز قط. من المعروف، كما تعلم، أنكما تشاجرتما في الحديقة وأنك عُدت إلى المنزل مترنحًا تكاد تكون فاقدَ الوعي. ولم يرَ أحدٌ روجر أنثانك منذ ذلك اليوم.»


أشار دوميني: «لو كنتُ قد قتلتُه، فلماذا لم يُعثَر على جثته؟»


هزَّ المحامي رأسه.


وقال: «كل أنواع النظريات موجودة، بالطبع، ولكن إحدى الخرافات تقول إنك ربما كنت مستعدًّا استعدادًا جيدًا. بالكاد يوجد رجل أو امرأة على بُعد أميال حول قصر دوميني لا يعتقد أن شبح روجر أنثانك لا يزال يُلازم الغابة السوداء بالقرب من المكان الذي تشاجرتما فيه.»


أصرَّ دوميني: «دعنا نكُنْ واضحَين تمامًا بشأن هذا.» وتابع يسأل: «إذا عُثِرَ على الجثة، فهل سأُتَّهم، بعد كل هذه السنوات، بالقتل غير العمد؟»


أكَّد له المحامي: «أظن أنه يمكنك أن تُريح عقلك تمامًا. أولًا، لا أظن أنه سيُوجَّه إليك اتهامٌ مطلقًا.»


«وثانيًا؟»


«لا يوجد إنسان في ذلك الجزء من نورفولك يعتقد أنه يمكن رؤية أو سماع جسد إنسان أو حيوان مرةً أخرى، إذا تُرِكَ في ظُلمة الغابة السوداء!»




الفصل الرابع

تأخَّر السيد مانجان، في طريقهما إلى مطعم المشويات، بضعَ دقائق في غرفة الاستقبال الصغيرة، حيث كان يتحدَّث مع بعض معارفه، بينما ظلَّ مضيفه، بعد أن تحدَّث إلى كبير الخدم وطلب كوكتيلًا من نادلٍ عابر، واقفًا ويداه خلف ظهره، يُراقب تدفُّق الرجال والنساء بكلِّ هذا الاهتمام الذي من المفترض أن يشعر به المرءُ تجاه زملائه بعد غياب طويل. كان قد تحرَّك قليلًا إلى أحد الجوانب للسماح لمجموعةٍ من الشباب أن يشقُّوا طريقهم عبر الغرفة المزدحمة، عندما رأى امرأةً تقف بمفردها أعلى السلالم الثلاثة المفروشة بالسجاد السميك. التقت عيناهما، وعلى الفور بدَت الحماسة من عينيها، التي كانت تتجوَّل في أرجاء الغرفة كما لو كانت تبحث عن أحد معارفها. للمتسكعين القليلين حول الغرفة، الذين يجهلون أيَّ أهمية خاصة لذلك التأمُّل المدروس من المرأة للرجل، قدَّمت شخصيتاهما نموذجًا مقبولًا، يكاد يكون رائعًا. كان طول دوميني ستة أقدام وبوصتين، وكان يتمتَّع إلى أقصى حدٍّ بالتميز الطبيعي لطبقته، جنبًا إلى جنب مع وِقفته العسكرية الرياضية التي يبدو أنه قد استعادها على نحوٍ مدهش. اكتسبَت بشرته سُمرةً ملائمة، وكان شاربه الخفيف، المشذَّب على نحوٍ قريب جدًّا من الشفة العليا، ذا لون بُنيٍّ مائل إلى الحمرة مثل شعره المصفَّف اللامع. وكانت المرأة، التي كانت قد بدأت حينئذٍ في التحرُّك ببطءٍ نحوه، تتمتَّع باللون ذاتِه، باستثناء أن خدَّيها، في تلك اللحظة، على أي حال، كانا شاحبين شحوبًا غير طبيعي. ولمع شعرها الأحمر الذهبي تحت قبَّعتها السوداء. كانت طويلة، ذات قوام إغريقي، ضخمة دون أن تكون غليظة، مَهيبة رغم صِغَر سنِّها. وكانت تحمل كلبًا صغيرًا تحت إحدى ذراعَيها، وحقيبةً من الحرير الأسود عليها إكليل من البلاتين والألماس، في اليد الأخرى. انحنى كبير الخدم الذي ترأَّس الغرفة بكِياسةٍ أكثرَ من المعتاد، وهو يراقب اقترابها. ومع ذلك، كانت عيناها لا تزالان مثبتتَين على الشخص الذي استحوذ على قدرٍ كبير من انتباهها. اتجهت نحوه، وشفتاها متباعدتان قليلًا.


قالت متلعثمة: «ليوبولد!» وتابعت: «بحق القديسين، لماذا لم تخبرني!»


انحنى دوميني قليلًا جدًّا. بدت كلماته مقتضبة وجافة.


أجاب: «أنا آسفٌ للغاية، لكني أخشى أنك مخطئة. اسمي ليس ليوبولد.»


وقفت هادئة تمامًا، تنظر إليه وكأنها لم تسمع كلمةً من نفيه المهذَّب.


تمتمَت: «في لندن، من بين كل الأماكن.» وأردفت تسأل: «قل لي، ماذا يعني هذا؟»


قال: «لا يسَعُني إلا أن أكرِّر، يا سيدتي، إنه للأسف الشديد لم يسبق لي أن حظيتُ بشرف معرفتكِ.»


كانت في حيرة، لكنها غيرُ مقتنعة على الإطلاق.


سألت بشكٍّ: «هل تقصد أن تُنكر أنك ليوبولد فون راجاشتين؟» وتابعت: «ألا تعرفني؟»


أجاب: «للأسف يا سيدتي. اسمي دوميني — إيفرارد دوميني.»


بدت للحظة كأنها تُحاول التغلُّب على بعض الإحراج الذي اقترب من الانفعال. ثم وضعَت أصابعها على كمِّه وجذبته إلى ركنٍ منعزل في الغرفة الصغيرة.


وهمست: «ليوبولد، لا شيء يمكن أن يجعل زيارتك لي أمرًا خاطئًا أو طائشًا. عنواني هو ١٧ ميدان بلجريف. أرغب في رؤيتك الليلة في الساعة السابعة.»


قال دوميني: «لكن، سيدتي العزيزة …»


التمعت عيناها فجأةً ببريق جديد.


وأصرَّت: «لا يمكنك العبثُ معي.» وأضافت: «إذا كنت ترغب في النجاح في مخططك أيًّا كان، يجب ألا تجعلني عدوةً لك. سأنتظر مجيئك في الساعة السابعة.»


وتركته وتوجَّهت إلى المطعم. انضم السيد مانجان، الذي تحرَّر حينئذٍ من أصدقائه، مرةً أخرى إلى مضيفه، وأخذ الرجلان مكانَهما على الطاولة الجانبية التي أُرشِدا إليها بدلائلَ كثيرةٍ على الاهتمام.


سأل المحامي بفضول: «ألم تكن هذه الأميرة إيدرستروم التي كنتَ تتحدَّث معها؟»


أوضح دوميني: «سيدة خاطبتْني بالخطأ. خلطتْ، بطريقةٍ غريبة جدًّا، بيني وبين رجلٍ كان يُطلَق عليه شبيهي في أكسفورد. كان اسمه في ذلك الوقت سيجيسموند ديفينتر، على الرغم من أنني أعتقد أنه نال لقبًا لاحقًا.»


علَّق السيد مانجان: «الأميرة شخصية مشهورة جدًّا، وواحدة من أغنى الأرامل في أوروبا. قُتِل زوجها في مبارزةٍ منذ نحو ستِّ أو سبع سنوات.»


طلب دوميني الغداء بعناية، مستخدمًا كلمة أو اثنتين بالألمانية مرة واحدة لمساعدة النادل، الذي كان يتحدَّث الإنجليزية بصعوبة. ابتسم رفيقه.


«أرى أنك لم تنسَ لُغاتك هناك في البرِّية.»


أجاب دوميني: «لم تُتَح لي الفرصة.» وأضاف: «أمضيت خمس سنوات على حدود شرق أفريقيا الألمانية، وعمِلت بالتجارة مع بعض الأشخاص هناك بانتظام.»


تساءل السيد مانجان: «بالمناسبة، ما وضعنا مع الألمان هناك؟»


كان الرد اللامبالي: «ممتاز، على ما أظن. لم أواجه أيَّ مشكلة.»


تابع المحامي: «بالطبع، سيكون كلُّ هذا جديدًا عليك، ولكن خلال السنوات القليلة الماضية انقسم الإنجليز إلى فئتين؛ الأشخاص الذين يعتقدون أن الألمان يرغبون في خوض الحرب وسحقِنا، وأولئك الذين لا يعتقدون ذلك.»


«إذن، منذ عودتي، زاد عدد الذين لا يعتقدون ذلك بمقدار واحد.»


علَّق السيد مانجان: «أنا شخصيًّا من بين المشككين. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكنني رؤيةُ ما تريده ألمانيا بمثلِ هذا الجيش الضخم، ولماذا تضيف باستمرار إلى أسطولها.»


توقَّف دوميني لحظةً لمناقشة مسألة المرق مع رئيس النادلين. لكنه عاد إلى الموضوع بعد بضع دقائق.


وأوضح: «بالطبع، لا يمكن أن تأتيَ آرائي إلا من دراسة الصحف ومن المحادثات مع الألمان الذين قابلتُهم في أفريقيا، ولكن فيما يتعلَّق بجيشها، كان ينبغي أن أقول إن روسيا وفرنسا مسئولتان عن ذلك، وكلما زادت قوَّتها، قلَّ احتمال احتدام صراعٍ أوروبي. قد تتوصَّل روسيا في أيِّ وقت إلى نتيجةٍ مفادُها أن الحرب هي خلاصها الوحيد في مواجهةِ ثورة، وأنت تعرف الشعور في فرنسا حول منطقة الألزاس واللورين جيدًا مثلما أعرفه. يقول الألمان أنفسهم إن ثمة اهتمامًا أكبرَ بالشئون العسكرية وإحرازِ المزيد من التقدُّم في روسيا اليوم أكثرَ من أيِّ وقت مضى.»


وافق السيد مانجان قائلًا: «ليس لدي شكٌّ في أنك على حق.» وتابع: «ومع ذلك فهي مسألة تجري مناقشتها كثيرًا الآن. دعنا نتحدَّث عن خُططك الشخصية. مثلًا، ماذا تنوي أن تفعل في الأسابيع القليلة القادمة؟ هل زرتَ أيًّا من أقاربك بعد؟»


أجاب دوميني: «لا أحد.» وأردف: «يؤسفني القول إنني لستُ حريصًا على الإطلاق على التواصل معهم.»


سعَل السيد مانجان. وقال: «يجب أن تتذكَّر أنه خلال مدة إقامتك الأخيرة في لندن، كنتَ في حالةِ فقر مُدقِع. ولا شكَّ في أن ذلك أثَّر نوعًا ما على موقفِ بعض أولئك الذين كان من الممكن أن يكونوا أكثرَ وديةً لولا ذلك.»


صرَّح دوميني بصراحة تامَّة: «سأكون راضيًا تمامًا عن عدم رؤية أحدهم مرةً أخرى مطلقًا.»


احتجَّ المحامي: «ذلك، بالطبع، مستحيل. يجب أن تذهب وترى الدوقة، على أي حال. فقد كانت دائمًا نصيرة لك.»


اعترف دوميني بشك: «كانت الدوقة دائمًا لطيفة جدًّا معي، لكنني أخشى أنها سئمتْ مني قبل أن أغادر إنجلترا.»


ابتسم السيد مانجان. كان يستمتعُ بغداء ممتاز للغاية، وبدا من الصعب تصديقُ أن مَن طلبه هو رجلٌ عاد للتو إلى موطنه من براري أفريقيا، وكان يستمتع تمامًا بالحديث عن الدوقات.


استهلَّ حديثه قائلًا: «نيافتها …»


«ماذا؟»


توقَّف المحامي وعيناه مثبتتان على الزوجَين على طاولة مجاورة. مال على الطاولة نحو رفيقه.


«الدوقة بنفسها، يا سير إيفرارد، خلفك مباشرة مع اللورد سان أومار.»


أعربَ دوميني، وهو يمدُّ يده مصافحًا رجلًا كان قد اقترب من طاولتهما: «هذا المكان هو بالتأكيد مُلتقى العالم بأسْرِه.» وتابع قائلًا: «سيمان، صديقي، مرحبًا! اسمح لي أن أقدِّم لك صديقي والمستشار القانوني، السيد مانجان — سيد سيمان.»


كان السيد سيمان رجلًا قصيرًا بدينًا، يرتدي ملابسَ صباحية أنيقة تقليدية للغاية. كان أصلعَ تقريبًا، باستثناء خُصلٍ صغيرة على كلا الجانبين، وقليلٍ من الشعر الطويل الفاتح المُصَفَّفِ بعنايةٍ للخلف على فروة رأسه اللامعة. كان وجهه مستديرًا على نحوٍ غير عادي باستثناء ذَقَنه؛ وعيناه لامعتين وثاقبتين، وفمُه فمَ رجلٍ فكاهي محترف. صافح المحامي «بحميمية» نادرًا ما تكون إنجليزية.


تابع دوميني قائلًا: «في غضون نصف الساعة، أجد أميرةً تدَّعي معرفتي، وقريبة» خفَض صوته قليلًا، «تتناول الغداء على بُعد بِضع طاولات فقط، والرجل الذي رأيته كثيرًا خلال السنوات العشر الماضية وسط مشاهد مختلفة قليلًا عن هذه، إيه، سيمان؟»


تلقَّى سيمان المقعدَ الذي كان النادل قد أحضره وجلس. وعلى الفور كان المحامي مهتمًّا.


وسأل، مخاطبًا الوافدَ الجديد: «هل أفهم إذن أنك عرَفتَ السير إيفرارد في أفريقيا؟»


ابتسم سيمان. كرَّر قائلًا: «عرفت؟» ومِن أول كلمات في حديثه ظهرت جنسيته الأجنبية. «لم يكن يوجد أيُّ شخص آخر أعرفه أكثرَ منه. لقد عملنا معًا — قدرًا كبيرًا من الأعمال — وعندما لم نكن شركاء، حصل السير إيفرارد عمومًا على أفضلِ ما في الأمر.»


ضحِك دوميني. «يأتي الحظ عمومًا للرجل إما مبكِّرًا أو متأخِّرًا في الحياة. وجاء حظِّي متأخرًا. أظن، يا سيمان، أنه لا بد أنك كنت تميمةَ حظي. لم يحدث شيء خطأ معي خلال السنوات التي عمِلنا فيها معًا.»


كان سيمان متحمسًا بعض الشيء. وقام بتمشيط إحدى خصلات الشعر الصغيرة المتبقية على جانب رأسه بكفِّ يده، ووضع أصابعه الممتلئة على كتف المحامي.


وقال: «سيد مانجان، أنصِت إليَّ. لقد بِعت لهذا الرجل الحصص المهيمنة في أحد المناجم، وهي أسهمٌ كنتُ أمتلكها لمدة أربع سنوات ونصف ولم أحصل على بنس واحد أرباحًا. بِعتُها له، كما أقول، بالسعر الأصلي. حسنًا، احتجتُ إلى المال ويبدو لي أنني منحتُ الأسهمَ فرصة عادلة. في غضون خمسة أسابيع — خمسة أسابيع، يا سيدي»، كرَّر، وهو يكافح من أجل أن يُكيِّف نبرة صوته مع محيطه المتحضِّر، «انتقلت هذه الأسهم من السعر الأصلي إلى أربعة عشر ونصف. اليوم تبلغ قيمتها عشرين. أعطاني خمسة آلاف جنيه لتلك الأسهم. اليوم يمكنه الدخولُ إلى سوق الأسهم وبيعها بمائة ألف. هذه هي الطريقة التي يتمُّ بها جنيُ الأموال في أفريقيا، سيد مانجان، حيث يوجد الأبرياء مثلي كلَّ يوم.»


سكب دوميني كأسًا من النبيذ وأعطاها للزائر.


وقال: «بحقِّك، لدينا جميعًا تقلباتنا. أفريقيا لا تَدين لك بشيء، يا سيمان.»


«لقد أبليت بلاءً حسنًا بطريقتي البسيطة» أقرَّ سيمان، وهو يلمِس ساق كأس النبيذ الخاصة به، «ولكن حيث كان عليَّ أن أكُدَّ، وقف السير إيفرارد وأمر القدَرَ بصبِّ كنوزه في حِضنه.»


كان المحامي يستمع باهتمام فضوليٍّ وسرور لهذه المحادثة غيرِ الجادة. ووجد فرصة الآن للتدخُّل.


«إذن كنتما حقًّا صديقَين في أفريقيا؟» علَّق، براحةٍ غريبة تكاد تكون غيرَ قابلة للتفسير.


أجاب سيمان: «إذا سمح السير إيفرارد بأن نطلق على علاقتنا هذا الاسم.» وأضاف قائلًا: «لقد قمنا بأعمالٍ تِجارية معًا في المدن الكبرى — في جوهانسبرج وبريتوريا، في كيمبرلي وكيب تاون — واستكشفنا معًا في الأماكن البرِّية. وسافرنا إلى المروج وتُهنا عن العالم عدةَ أشهر في كلِّ مرة. لقد رأينا عجائبَ أفريقيا الحقيقية معًا، فضلًا عن حضارتها المبتذلة.»


سأل السيد مانجان: «وأنت أيضًا، هل تقاعدتَ؟»


كانت ابتسامة سيمان توحي بالابتهاج.


قال: «الصفقة نفسُها التي جعلت ثروةَ السير إيفرارد تصل إلى أرقام رائعة جلبت لي هذا المبلغ المتواضع الذي أقسمتُ على الوصول إليه قبل العودة إلى إنجلترا. هذا صحيح. لقد تقاعدت عن جني المال. الآن أعود مرةً أخرى إلى عملي في حياتي الواقعية.»


علَّق دوميني: «إذا كنتَ ستتحدَّث عن هوايتك، فمن الأفضل أن تطلب منهم تقديمَ غدائك هنا.»


أجاب صديقه: «لقد انتهيتُ من غدائي قبل أن تدخُل.» وأضاف قائلًا: «يمكنني أن أشرب كأسًا أخرى من النبيذ معك. بعد ذلك خمرٌ — مَن يدري؟ في هذه المواقف التي يكون فيها المرء مُنَعَّمًا، يمكنه أن يشرب بحُرِّية. لقد قاومنا أنا والسير إيفرارد، سيد مانجان، العطشَ في أماكنَ كان القليل من البراندي المخفَّف والماء هو متعتنا الرئيسية لأشهر.»


سأل المحامي: «هلا تُخبرني عن هذه الهواية؟»


تدخَّل دوميني على الفور. «أنا أحتجُّ. إذا بدأ الحديث عنها، فسيبقى هنا طَوال وقتِ ما بعد الظهر.»


مدَّ سيمان يدَيه وهزَّ رأسه نفيًا.


واعترض قائلًا: «لكنني لستُ غيرَ عقلاني لهذه الدرجة. كلمة واحدة فقط — اتفقنا؟ حسنًا، إذن» بدأ بسرعة، بطريقةِ رجلٍ يخشى المقاطعة. «يجب أن يكون هذا واضحًا لك يا سيد مانجان. أنا ألماني بحكم الولادة، وأحمِل الجنسية الإنجليزية من أجل أعمالي؛ أحب ألمانيا، وممتنٌّ لإنجلترا. عشت ثلث حياتي في برلين، وثلثًا في فورست هيل هنا في لندن، وفي المدينة، وثلثًا في أفريقيا. شاهدتُ نمو المنافسات التجارية والغيرة بين البلدَين. لا حاجة إليها. وقد تؤدي إلى أشياءَ أسوأ. لو كان بيدي لكنت تخلصتُ منها كلِّها. هدفي هو تشجيع رابطة لتعزيز المزيد من العلاقات الاجتماعية والتجارية الودية بين شعب بريطانيا العظمى وشعبِ الإمبراطورية الألمانية. هذا كلُّ ما في الأمر! هل أهدرت الكثيرَ من وقتك؟ ألا أستطيع التحدُّث عن هوايتي دون سيل من الكلمات؟»


اعترف مانجان: «الإيجاز بحدِّ ذاته، وأهنئك من كلِّ قلبي على مشروعك. إذا تمكنتَ من إشراك الأشخاص المناسبين فيه، فستصبح جمعيةً قيمة للغاية.»


«في ألمانيا لديَّ الأشخاص المناسبون. كلُّ الألمان الذين يعيشون من أجل بلدهم ويحبُّون وطنهم يكرهون فكرةَ الحرب. نريد السلام، نريد أصدقاء، ولنتكلم رجلًا لرجل» اختتم، وهو ينقر المحاميَ على كمِّ المعطف: «إنجلترا هي أفضل عميل لدينا.»


علَّق الأخير: «أتمنَّى أن يُصدِّق المرء أن صوتك هو الصوت الشائع في بلدك.»


نهض سيمان واقفًا على مضَض.


وأعلن، وهو يُلقي نظرةً سريعة على ساعته: «لديَّ موعدٌ في الثانية والنصف مع صاحب مصنع صوف من برادفورد. آمُل أن أجعله ينضم إلى مجلسي.»


انحنى بطريقةٍ رسمية للمحامي، وأومأ برأسه إلى دوميني بأُلفةِ صديق قديم، وشقَّ طريقه بصخبٍ ومرحٍ إلى خارج الغرفة.


كان تعليق الأول: «أظن أنه رجلُ أعمال جيد.» وأضاف قائلًا: «أتمنى له التوفيق في رابطته. أنت نفسك، يا سير إيفرارد، ستحتاج إلى بدء بعض الاهتمامات الجديدة. ماذا عن السياسة؟»


اعترف دوميني، وهو يهزُّ كتفيه: «أتوقَّع حقًّا أن أجدَ الحياة صعبةً بعض الشيء في البداية.» وأضاف قائلًا: «لقد فقدتُ الكثيرَ من ميول مرحلة شبابي، وأخشى بشدةٍ أن يُطلِق عليَّ أصدقائي هنا لقب الاستعماري. لا أستطيع أن أتخيَّل نفسي لا أفعل شيئًا في نورفولك طيلةَ بقية أيامي. ربما سأدخل البرلمان.»


صرَّح رفيقه باندفاع: «يجب أن تُسامحني في قولي إنني لم أعرف مطلقًا في حياتي أن عشْر سنوات تُحدِث فرقًا كهذا في رجل.»


قال دوميني: «المستعمرات إما أن تقتلَك وإما أن تُداويَك. إما أن تأخذ الضربة وتخرجَ منها رجلًا أقوى، وإما أن تنهار. كانت فرصتي ضعيفة جدًّا في الهروب من الانهيار، لكنني استجمعت قُواي في الوقت المناسب. اليوم ما كنت أستبدل أوقاتي الصعبة مقابل أيِّ شيء في العالم.»


قال السيد مانجان بغطرسةٍ موروثة: «إذا سمحت لي، في أول اجتماع لنا في ظل الظروف الجديدة، أودُّ أن أقدِّم لك تهانئي القلبية، ليس فقط على ما أنجزتَه ولكن على ما أصبحتَ عليه.»


أجاب دوميني بابتسامةٍ بها قليلٌ من الجدية ولمعانٌ غريب في عينَيه: «وآمُل، أيضًا، على ما قد أُنجزه مستقبلًا.»


نهضت الدوقة ورفيقُها واقفَين، وتوقَّفت الأولى بلطف، في طريقها للخروج، بعد أن رأت محاميَها.


قالت: «كيف حالك يا سيد مانجان؟» وأضافت قائلة: «أتمنى أن تكون مهتمًّا بأولئك المستأجِرين المزعجِين لديَّ في ليسترشير؟»


أكَّد لها مانجان: «سنقدِّم تقريرنا في وقته، أيتها الدوقة.» وأضاف: «هل تسمحين لي بأن أذكِّركِ بأحد أقربائكِ الذي عاد لتوِّه من الخارج؛ السير إيفرارد دوميني؟»


كان دوميني قد نهض واقفًا قبل ذلك بلحظات، والآن كان يمدُّ يده. دون أيِّ ردٍّ حدَّقَت فيه الدوقة، التي كانت امرأة طويلة، رشيقة، ذات شعر كثيف فاتح اللون يتخلله على نحوٍ ضعيف اللونُ الرمادي، وعينَين بُنيتين جميلتين للغاية، وبشَرةِ فتاة، وأخلاقِ خادمة مطبخ، وذلك باعترافها تمامًا.


كرَّرت: «سير إيفرارد دوميني؟» وأردفت: «إيفرارد؟ غير معقول!»


سحب دوميني يدَه الممدودة على الفور، وتلاشت الابتسامة المؤقتة من على شفتَيه. وتدخَّل المحامي في الموقف.


وأصرَّ بجدية: «يمكنني أن أؤكد لنيافتكِ أنه لا شكَّ على الإطلاق في هُوية السير إيفرارد.» وأضاف قائلًا: «لقد عاد من أفريقيا خلال الأيام القليلة الماضية فقط.»


بقي شكُّ الدوقة موجودًا، بلطفٍ تام، ولكنه كان خاضعًا لعنادها الطبيعي.


وقالت: «ببساطة لا أستطيع أن أحملَ نفسي على تصديق ذلك.» وتابعت قائلةً: «تعالَ، سوف أتحدَّاك. متى التقينا آخر مرة؟»


كان الرد الفوري: «في ويستر هاوس.» وأضاف قائلًا: «جئتُ لأودعكِ.»


كانت الدوقة مندهشةً قليلًا. لانت عيناها، وظهرت ابتسامةٌ خفيفة على جانبَي شفتيها. أصبحت فجأة امرأة جذابة للغاية.


كرَّرت: «جئتَ لتُودعني، وماذا؟»


سألها دوميني، وهو يقف منتصبًا وينظر في عينيها: «هل أعتبر هذا تحديًا؟»


«كما تشاء.»


تابع: «لقد كنتِ ألطف معي قليلًا، مما أنتِ عليه اليوم.» وأضاف وهو يُخرِج صورة صغيرة من محفظته: «لقد أعطيتني … هذه، وسمحتِ لي …»


صرخَت: «يا إلهي، ضعْ هذا الشيء بعيدًا، ولا تقل كلمة أخرى! إن ابن أخي الراشد، سان أومار، يدفع فاتورته على مسمعٍ منا. تعالَ لرؤيتي في الثالثة والنصف بعد ظهر اليوم ولا تتأخَّر دقيقة. وسان أومار» تابعَت، مشيرةً إلى الشاب الذي وقف الآن إلى جانبها: «هذا أحدُ أقربائك؛ السير إيفرارد دوميني. إنه شخص فظيع، لكن صافِحْه، وتعالَ. لقد تأخَّرت نصف الساعة بالفعل على الخيَّاطة.»


ضحِك اللورد سان أومار بغموض، ثم صافح قريبه الجديد، وأومأ برأسه بدماثةٍ للمحامي وتبِع عمَّته إلى خارج الغرفة. كانت تعابيرُ وجه مانجان شديدةَ الابتهاج.


صاح قائلًا: «سير إيفرارد، فليُبارككَ الرب! لقد حصلَت المرأة على ما تستحق! لأول مرة في حياتي أرى دوقةً يحمرُّ وجهها خجلًا!»




الفصل الخامس

كان ويستر هاوس واحدًا من تلك المساكن الفخمة جزئيًّا التي أُنشئت على ما يبدو دون سببٍ على الإطلاق في وسط حديقة ريجنت بارك. كان قد اقتناه دوقٌ سابق بتحريضٍ من الوصي، الذي كان صديقَه الحميم، واحتفظَت به الأجيالُ اللاحقة في احتجاجٍ صامتٍ على الصروح المشوَّهة التي جعلت من بارك لين طريقًا سريعًا لأحد المليونيرات. استُقبِل دوميني، الذي تفحَّصه أولًا شخصٌ يرتدي صدرية برتقالية وقبعةً حريرية في مأوى الحرس، من قِبَل كبير الخدم في القاعة الحجرية الكبرى، وقاده خادمٌ آخرُ يرتدي صدرية برتقالية عبر قاعة استقبال فيكتورية استثنائية، وأخيرًا أُرشِد إلى مخدعٍ صغير جدًّا يؤدي إلى غرفةٍ أكبر، وينتهي بحديقةٍ زجاجية مليئة بنباتاتٍ غريبة طيبة الرائحة. مدَّت الدوقة، التي كانت مضطجعة على مقعد مريح، يدها التي رفعَها الزائرُ إلى شفتَيه. أشارت إليه للجلوس بجانبها وأمعنت النظر فيه مرةً أخرى بإصرارٍ سافر.


وقالت: «ثمة خَطبٌ ما بشأنك.»


أجاب: «يبدو هذا مؤسفًا جدًّا، فأنتِ لم تتغيَّري البتة.»


علَّقت منتقدة: «حسنًا.» وأضافت: «ومع ذلك، فقد تغيرت. لم أعدُ أحبُّك على الإطلاق.»


تنهَّد قائلًا: «لقد كان الخوف من تغيرك هذا هو ما أبقاني على قيد الحياة مدةً طويلة في أقصى أركان العالم.»


نظرت إليه بقوةٍ كان من الواضح أنها مُتصنَّعة.


وقالت: «انظر، مِن الأفضل لنا أن يكون لدينا فَهمٌ واضح تمامًا بشأن نقطةٍ واحدة. أعرف الموقف الدقيق لشئونك، وأعرف أيضًا أن المائتي جنيه التي يُرسلها إليك محاميك كلَّ عام جاء جزءٌ منها من بضع أشجار قديمة والجزء الآخر من جيبه الخاص. لا يمكنني تخيُّلُ كيف ستعيش هنا، ولا فائدة من توقُّع أن يفعل هنري شيئًا من أجلك. فالرجل المسكين بالكاد لديه ما يكفي من المال في جيبه لدفع نفقات سفره عندما يذهب لإلقاء المحاضرات.»


كرَّر دوميني: «محاضرات؟» وأضاف قائلًا: «ماذا حدث للمسكين هنري؟»


كان الرد المبجَّل: «زوجي رجلٌ ذو ضمير حي للغاية.» وأضافت: «إنه ينتقل من مدينة إلى أخرى مع اللورد روبرتس وسكرتير، لإلقاء محاضرات عن الدفاع الوطني.»


علَّق دوميني: «هنري العزيز كان دائمًا غريبَ الأطوار قليلًا، أليس كذلك؟» وأردف: «ومع ذلك، دعيني أُرحْ بالكِ بشأن تلك المسألة الأخرى، يا كارولين. يمكنني أن أؤكدَ لكِ أنني عدتُ إلى إنجلترا ليس لاقتراض المال، ولكن لإنفاقه.»


هزَّت ابنة عمِّه رأسها بحزن. «وقبل بضع دقائق كنتُ على وشك أن أقول إنك فقدتَ حِس الفكاهة لديك!»


قال بإصرار: «أنا جادٌّ فيما أقول.» وأضاف قائلًا: «لقد تبيَّن أن أفريقيا هي منجم ذهبي. على غيرِ المتوقَّع تمامًا، يجب أن أقرَّ، لقد حصلتُ على مبلغ كبير من المال قبل انتهاء إقامتي هناك. وأنا أسدِّد الرهونَ العقارية الخاصة بممتلكات دوميني جميعها، وأريد من هنري أن يُدوِّن على الفور تلك المبالغ القليلة التي تكرَّم بإقراضي إياها في الأيام الخوالي.»


جلست كارولين، دوقة ويستر، دون حركة تمامًا للحظة فاغرةً فاها، وهي حالة كانت طبيعية تمامًا ولكنها غيرُ لائقة.


وصاحت: «وتقصد أن تُخبرني أنك حقًّا إيفرارد دوميني؟»


غمغم: «ثَمة طريقةٌ واحدة لإثبات هذا الأمر.»


وقرَّب مقعده منها بتأنٍّ، وأمسك يدها ورفعها إلى شفتَيه. كان وجهها قريبًا من وجهه بشكلٍ خطير. تراجعت قليلًا إلى الوراء … وعلى نحوٍ مفاجئ للغاية.


همست: «عزيزي إيفرارد، هنري في المنزل! بالإضافة إلى ذلك … نعم، أظن أنك إيفرارد. في هذه اللحظة تحديدًا كان ثَمة شيء في عينَيك يُشبهه تمامًا. لكنك قويٌّ جدًّا. هل كنت تنقِّب هناك أو ما شابه؟»


هزَّ رأسه.


«يقضي المرءُ نصف وقته على سرج الحصان.»


سألت مرةً أخرى باستغراب: «وأنت حقًّا ميسور الحال؟»


أجاب: «لو أنني بقيتُ هناك لمدة عام آخر، وتمكَّنت من الزواج من يهودية هولندية، لأصبحتُ قادرًا على شراء بارك لين.»


تنهَّدَت.


«هذا رائعٌ للغاية. سوف يود هنري أن يستعيدَ أمواله.»


«وأنتِ؟»


بدَت حزينةً للغاية.


واحتجَّت قائلة: «لقد فقدتَ كلَّ أخلاقك.» وأضافت: «أنت رجل لَعوب. كان يجب أن تميلَ نحوي ويرتعش صوتك عندما تقول هذه الكلمة الأخيرة، ولكنك تبدو كما لو كنتَ جالسًا في وضعِ انتباه، وبريقٌ فولاذي مؤكَّد يشعُّ من عينيك.»


قال مبررًا: «نادرًا ما يرى المرءُ امرأةً هناك.»


هزَّت رأسها. «لقد تغيرتَ. كان الحديث عن الحب بالنبرة الصحيحة تمامًا بمثابةِ حاسةٍ سادسة لديك، لقولِ الشيء الصحيح تمامًا بالطريقة الصحيحة.»


أعلن آمِلًا: «يمكنني استعادتها بالقليل من المساعدة.»


تجهمَت قليلًا.


«لن ترغبَ في أن تُساعدك امرأةٌ عجوزٌ مثلي، يا إيفرارد. ستكون مشهورًا جدًّا في المدينة. وستكون قادرًا على تضييع الوقت في العروض الموسيقية الكوميدية، أو مغازلة الجميلات المتزوجات، أو — أنا آسفة، يا إيفرارد، لقد نسيت.»


سأل بثبات: «نسيتِ ماذا؟»


«لقد نسيتُ المأساة التي دفعَتك بالنهاية إلى السفر إلى الخارج. لقد نسيتُ زواجك. هل يوجد أيُّ تغيير في حالة زوجتك؟»


«ليس كثيرًا، للأسف.»


«والسيد مانجان — هل يعتقد أنك بأمانٍ هنا؟»


«تمامًا.»


نظرَت إليه بجدية. ربما لم تعترف أبدًا، حتى لنفسها، بمدى إعجابِها بابن عمها النذل هذا.


قالت له: «ستجد أنه لن يجرؤ أحدٌ على قول كلمة ضدك، بعد أن أصبحتَ ثريًّا وفي حالة جيدة. سوف ينسَون كلَّ شيء تريدهم أن ينسَوه. متى ستأتي وتتناول العشاء هنا وتلتقي بجميع أقاربك؟»


أجاب: «وقتما تتكرَّمين بطلب ذلك.» وأضاف قائلًا: «فكرتُ في الذَّهاب إلى قصر دوميني غدًا.»


نظرت إليه بإحساس جديد في عينيها — شيء من الخوف، وأيضًا، شيء من الإعجاب.


«لكن … زوجتك؟»


قال: «إنها هناك، على ما أعتقد.» وأضاف قائلًا: «ليس بيدي حيلة. لقد نُفيت من منزلي مدةً طويلة بما يكفي.»


توسَّلَت فجأةً: «لا تذهب. لماذا لا تكون شجاعًا وتتخلَّص منها. أعلم كم أنت رقيق القلب، لكن لديك مستقبلك وحياتك المهنية التي يجب أن تُفكِّر فيها. من أجلها، أيضًا، يجب ألا تمنحَها الفرصة …»


لم يستطِع دوميني أن يُقرِّر أبدًا ما إذا كانت المقاطعة التي حدثَت في تلك اللحظة مرحَّبًا بها أم لا. قطعت كارولين حديثها فجأةً ونظرت بحذرٍ نحو الغرفةِ الأكبر. كان رجلٌ طويل، أشيبُ الشعر، يرتدي ثيابًا عتيقة الطِّراز ويضع على أنفه نظارة، قد رفع الستائر. خاطب الدوقة بصوتٍ رفيعٍ عالٍ.


قال: «عزيزتي كارولين … آه، يجب أن تُسامحيني. لم أكن أعرف أنكِ مشغولة. لن نبقى طويلًا، لكني أودُّ أن أقدِّم لكِ أحدَ أصدقائي الشباب الذي سيُساعدني في الاجتماع هذا المساء.»


أجابت زوجتُه: «أدخِله»، ومجدَّدًا عاد صوتها إلى إيقاعه البطيءِ الطبيعي. أضافت: «ولديَّ مفاجأةٌ لك أيضًا، هنري … أظن أنك ستجدها مفاجأةً عظيمة جدًّا!»


نهض دوميني — بقامته الطويلة المثيرة للإعجاب — ووقف منتظرًا اقترابَ الوافد الجديد. تقدَّم الدوق، ونظر إليه بتساؤل. كان شابٌّ، من الواضح أنه جندي بالزي المدني، منتظرًا في الخلفية.


اعترف الدوق بلطف: «يجب أن أعترف بالمفاجأة.» وأضاف قائلًا: «ثمة شيءٌ مألوف للغاية في وجهك، يا سيدي، لكن لا أستطيع أن أتذكَّر أنني قد حظيتُ بشرف مقابلتك.»


علَّقت كارولين قائلةً: «كما ترى، أنا لستُ الوحيدة، يا إيفرارد، التي لم تتعرَّف عليك من أول نظرة. هذا إيفرارد دوميني، يا هنري، عاد من المنفى الأجنبي وتبدَّل حاله بكلِّ ما تعنيه الكلمة.»


قال دوميني وهو يمدُّ يده: «كيف حالك؟ أبدو نوعًا ما مفاجأةً للجميع، لكنني أتمنى ألا تكون قد نسيتني تمامًا.»


صاح الدوق: «يا إلهي! أنت لا تقصد أن تقول إنك حقًّا إيفرارد دوميني؟»


كان التأكيدُ الهادئ: «أنا هو، بما لا يدَع مجالًا للشك.»


قال الدوق وهو يُصافحه: «مدهش للغاية!» وأضاف قائلًا: «مدهش للغاية! لم أرَ مثلَ هذا التغيير في حياتي. نعم، نعم، أرى — الملامح ذاتها، بالطبع — والأنف والعينان — نعم، نعم! لكنك تبدو أطولَ، وتتصرَّف كأنك جندي. يا إلهي! لقد أنجزَت أفريقيا عملًا رائعًا معك. أنا سعيدٌ برؤيتك يا عزيزي إيفرارد! سعيد برؤيتك!»


علَّقت زوجته بطريقةٍ جافة: «ستشعر بسعادةٍ أكبر عندما تسمع بقية الأخبار.» وأردفت: «في هذه الأثناء، قدِّم لنا صديقك.»


أذعنَ الدوق، والتفت إلى الشاب في الخلفية: «بالتأكيد. آسفٌ جدًّا، عزيزي النقيب بارترام. يجب أن تكون العودةُ غيرُ المتوقَّعة لأحد أقارب زوجتي هي اعتذاري عن هذه الهفوة الأخلاقية. دعني أقدِّمْك إلى الدوقة. النقيب بارترام عاد لتوِّه من ألمانيا، يا عزيزتي، وهو مؤيد متحمس لقضيتنا — السير إيفرارد دوميني.»


صافحت كارولين تلميذَ زوجها بلطف، وصافحه دوميني مصافحة رسمية.


قالت الأولى وهي تبتسم: «إذن، أنت أيضًا أيها النقيب بارترام، أحدُ هؤلاء الأشخاص المقتنعين بأن ألمانيا لديها مخططاتٌ شريرة ضدنا؟»


ردَّ الجنديُّ الشاب قائلًا: «لقد عدتُ لتوي من ألمانيا بعد أن مكثتُ هناك اثنَي عشر شهرًا. ذهبت بعقلٍ منفتح. وعُدت مقتنعًا أننا سنخوض حربًا مع ألمانيا في غضون عامين.»


أومأ الدوق مؤيدًا بقوة.


وقال: «صديقنا الشابُّ على حق.» وأضاف قائلًا: «كنت أكرِّر الحقيقة على حَفنةٍ من الإنجليز ذوي العقول المتحجرة الذين تكرَّموا بالحضور إلى اجتماعاتنا ثلاثَ مرات في الأسبوع عدةَ أشهر. وجعلت من نفسي مصدرَ إزعاج لمجلس اللوردات والصحافة. إنه لأمرٌ فظيع أن نُدرك مدى صعوبة جعل الرجل الإنجليزي يفكِّر، ما دام يَجني المال ويقضي وقتًا ممتعًا. هل عُدتَ للتو من أفريقيا، يا إيفرارد؟»


«منذ أسبوع يا سيدي.»


«هل رأيت أيَّ شيء من الألمان هناك؟ هل كنتَ في أي مكان بالقرب من مستعمرتهم؟»


أجاب دوميني: «لقد كنتُ على اتصال بهم عدةَ سنوات.»


صاح السائل: «هذا أمرٌ مثير للاهتمام للغاية!» وأضاف قائلًا: «قد تكون عونًا لنا، يا إيفرارد. حقًّا، قد تكون كذلك! أخبرني الآن، أليس صحيحًا أن لديهم عملاءَ سريِّين هناك، يحاولون إثارة القلق والبلبلة بين البوير؟ أليس صحيحًا أنهم يتوقَّعون منذ وقتٍ طويل جدًّا حدوثَ حرب مع إنجلترا، وعقدوا العزم على إثارة المستعمرة ضدنا؟»


أجاب دوميني: «أنا آسفٌ جدًّا، لكنني لستُ سياسيًّا بأي شكلٍ من الأشكال. كل الألمان الذين التقيتُ بهم هناك يَبْدون أكثرَ جنسٍ مسالم، ولا يبدو أنه يوجد أدنى استياء بين البوير أو أي أحدٍ آخر.»


بدا على وجه الدوق الإحباطُ الشديد. وقال: «هذا مفاجئ للغاية.»


تابع دوميني: «الأشخاص الوحيدون الذين يبدو أنَّ لديهم أيَّ سبب للاستياء هم المستوطنون الإنجليز. أنا نفسي لم أبدأ في القيام بأيِّ عمل جيد هناك إلا قبل بضع سنوات، لكنني سمعت بعضَ القصص الغريبة عن الطريقة التي عومل بها شعبنا بعد الحرب.»


علَّق الجندي الشاب قائلًا: «ما تقوله عن جنوب أفريقيا، يا سير إيفرارد، أمرٌ مثير للاهتمام بطبيعة الحال، لكن لا بد لي من قول أنه يتعارض بشكل مباشر مع كلِّ ما سمعته.»


ردَّد الدوق بحماس: «وأنا كذلك.»


تابع دوميني: «لقد عشت هناك طوال الأحد عشر عامًا الماضية، ومع أنني أمضيتُ الجزء الأول من ذلك الوقت في السفر وراء الطرائد الكبيرة، إلا أنني ملزمٌ مؤخرًا بالاعتراف بأن كل فكرة وطاقة أمتلكها تركزَت على جني المال. لهذا السبب، ربما كانت ملاحظاتي خاطئة. لي الشرف أن أحضر إلى أحد اجتماعاتك الأولى، أيها الدوق، وأحاول فهْم هذه المسألة.»


نظر إليه قريبه الجليل بقليلٍ من الفضول للحظة من خلف نظارته.


قال: «عزيزي إيفرارد، فلتعذرني على ملاحظتي، لكنني أجدُك تغيرتَ أكثرَ مما كنتُ أعتقد أنه ممكن.»


علقَت زوجته بسخرية باهتة: «لقد تغيَّر إيفرارد بأكثرَ من طريقة.»


انحنى دوميني، الذي نهض للمغادرة، على يدها.


فأضافت: «ماذا عن حفل عشائي، يا سيدي؟»


أجاب: «حالما أعود من نورفولك.»


سألت بقليلٍ من الفضول: «هل ستذهب حقًّا إلى قصر دوميني؟»


«بكل تأكيد!»


مرة أخرى، كان ثمة القليلُ من الخوف في عينيها، تلاه وميضٌ خاطف من الإعجاب. صافح دوميني مضيفه بشدة وأومأ برأسه إلى بارترام. كان الخادم الذي كانت الدوقة قد استدعته واقفًا ممسكًا الستائرَ من جانب واحد.


قال دوميني، وهو يُكمل وداعه: «آمُل أن أراك مرة أخرى قريبًا، أيها الدوق. توجد مسألة عمل بسيطة يتعيَّن تعديلها بيننا. من المحتمل أن تسمع من السيد مانجان في غضون يوم أو يومين.»


حدَّق الدوق في هذا الزائر المذهل المغادر. عندما أُسدِلَت الستائر التفتَ إلى زوجته.


كرَّر: «مسألة عمل بسيطة.» وأضاف قائلًا: «آمُل أن تكوني قد أوضحتِ لإيفرارد، يا عزيزتي، أنه على الرغم من أننا، بالطبع، سعداءُ جدًّا برؤيته مرةً أخرى، من المستحيل تمامًا أن يعتمد عليَّ في أي مساعدة مالية في الوقت الحالي.»


ابتسمت كارولين.


وأوضحت: «كان إيفرارد يُلمِّح إلى الأموال التي يَدين بها لك بالفعل. فهو ينوي أن يُسدِّدها دفعة واحدة. كما أنه يسدِّد الرهونَ العقارية الخاصة بممتلكات دوميني. يبدو أنه جمع ثروةً في أفريقيا.»


انهار الدوق على أحد المقاعد المريحة.


وصاح: «إيفرارد يُسدِّد ديونه؟» وأضاف قائلًا: «إيفرارد دوميني يسدد الرهون العقارية؟»


وافقته زوجتُه قائلة: «هذا ما أفهمه.»


تمسَّك الدوق بالملاذ الأخير لرجلٍ ضعيف ولكن عنيد. واجتمعت شفتاه مثل مصيدة فئران.


وأعلن: «ثمة خَطْبٌ ما في هذا الأمر.»




الفصل السادس

بنفادِ صبرٍ أمضى دوميني ذلك المساء ساعةً في غرفة جلوسه في فندق كارلتون، في انتظار سيمان. لم يظهر إلا قرابة الساعة السابعة.


سأله دوميني: «هل تعلم أن الأميرة إيدرستروم تنتظر أن أزورها في الساعة السابعة؟»


أجاب سيمان: «أثقُ في كلامك؛ ولكن لا أرى أيَّ مأساة في هذا الموقف. فالأميرة امرأةٌ عاقلة ولديها رؤية سياسية. وعلى الرغم من أنني لا يمكنني أن أوصيَك بالثقة فيها ثقةً عمياء، ما زلت أظن أنه يمكن اتِّباع حلٍّ وسط بحكمة.»


صاح دوميني: «هُراء! بصفتي ليوبولد فون راجاشتين، فإن للأميرة مزاعمَ لا جدال فيها بشأني وبشأن حريتي، مزاعم من شأنها أن تتعارضَ تمامًا مع حياة إيفرارد دوميني المهنية.»


بدقة منهجية، وضعَ سيمان قبَّعته وقفازَيه وعصا المشي على الخِزانة. ثم نظر إلى غرفة النوم المتصلة، وأغلق الباب وأوصده، واستراح على مقعد مريح.


قال: «اجلس قبالتي، يا صديقي. سنتحدث معًا.»


أطاعه دوميني بقليلٍ من التجهم. لكن رفيقه تجاهل سلوكه.


قال وهو يضرب على راحة يده بأصبع يده الأخرى: «الآن، يا صديقي، أنا تاجرٌ وأفعل الأمور بطريقة تجارية. دعنا نُقيِّم موقفنا. هذا الأسبوع سيكون قد مرَّ ثلاثة أشهر منذ التقينا وفقًا لموعدٍ سابق في فندق معيَّن في كيب تاون.»


تمتم دوميني: «ثلاثة أشهر فقط.»


تابع سيمان: «لم يكن يعرف بعضنا بعضًا.» وأضاف قائلًا: «كنت قد سمعتُ فقط عن البارون فون راجاشتين بوصفه مواطنًا ألمانيًّا مخلصًا ووطنيًّا، وأنه يُشارك في مشروعٍ مهم في شرق أفريقيا بوساطة خاصة من القيصر، بسبب حدثٍ مؤسف في المجر.»


قال دوميني ببطء وعيناه مثبَّتتان على عيني رفيقه: «قتلت رجلًا في مبارزة. لم يكن فعلًا لا يُغتفر.»


«يوجد العديد والعديد من المبارزات. لم يكن القتال بين شابَّين، دفاعًا عن شرف سيدة شابة في مكانتهما الاجتماعية أو لكسب رضاها، مخالفًا لأعراف البلاط الملكي. من الناحية الأخرى، يُنظَر بشكلٍ مختلف جدًّا إلى مسألة كونك عشيقًا لزوجةِ واحد من أعظم النبلاء في المجر، واستحواذك عليها بقتل الزوج في المبارزة التي كانت حتميةً للحفاظ على شرفه.»


احتجَّ دوميني على ذلك قائلًا: «لم تكن لديَّ رغبةٌ في قتل الأمير، ولم تكن مقابلتنا بناءً على رغبتي مطلقًا. قاتل الأميرُ مثل المجنون وانزلق، بعد اندفاع جامح، على حد سيفي الثابت.»


قال سيمان: «لنتجاوز ذلك الأمر.» وأضاف قائلًا: «أنا لستُ من مكانتك الاجتماعية وقد لا أفهم آداب هذه الأمور. أنا ببساطة أنظر إليك بوصفك مذنبًا في نظر الرب، وأشعر أن له الحقَّ في أن يطلب منك الكثير عن طريق التضحية الشخصية.»


سأل دوميني: «هل بوسعك أن تُخبرني ماذا يمكنني أن أعطيه أكثرَ من ذلك؟ لقد أمضيت سنوات مرهقة في بلد ملحدٍ ومليء بالحمَّى، وأعددت للقتال مجموعة كبيرة من السكان الأصليين. لقد توليت لجانًا سياسية أخرى في المستعمرة قد تؤتي ثمارها. كان يتعيَّن أن أتولى العمل الذي كان مخصصًا لي في الأصل، والذي تلقيتُ تعليمًا باللغة الإنجليزية من أجله. ذهبت إلى إنجلترا، وفي ظل هذه الهوية كما أفترض بعد التشاور معك في كيب تاون، سأجعل نفسي قدرَ الإمكان «شخصًا مرغوبًا فيه» في ذلك البلد. أنا لا أنتظر لقاءنا. أرى فرصةً عظيمة وها أنا ذا أغتنمها. فأنا أحوِّل نفسي إلى رجلٍ نبيل من الريف الإنجليزي، وأعتقد أنك ستعترف بأنني فعلتُ ذلك بنجاح كبير.»


وافق سيمان على ذلك قائلًا: «كلُّ ما تقوله صحيح. قابلتَني في كيب تاون بهُويتك الجديدة، وبدا أنك تتقمَّصها بشكل رائع بالتأكيد. لقد جعلتها باهظةَ الثمن بشكلٍ غير مألوف، لكننا لا نكره المال.»


أوضح دوميني: «لم أستطِع العودةَ إلى منطقة فقيرة في دياري.» وأضاف قائلًا: «لم يكن ينبغي أن أحتلَّ أيَّ مكانة في الحياة الاجتماعية الإنجليزية، ولم يكن ينبغي أن أتلقى أيَّ ترحيب من أولئك الذين أتصورُ أنك ترغب في أن أكون على وفاقٍ معهم.»


أعلن سيمان: «مرةً أخرى، أنا لا أشكو.» وأضاف بجديةٍ قائلًا: «لا يوجد حدود لحبِّنا للمال. ويجب ألا يكون هناك أيُّ حدود لولائنا.»


احتجَّ دوميني قائلًا: «في هذه الحالة، لا يتعلَّق الأمر بالولاء. لا يمكن لإيفرارد دوميني أن يُلقي بنفسه عند قدَمَي الأميرة إيدرستروم، المعروفة بكونها واحدةً من أكثر النساء عاطفيةً في أوروبا، بينما لا تزال علاقتها الغرامية مع ليوبولد فون راجاشتين في الذاكرة. تذكَّر أن مسألة هُويتينا قد تظهر في أيِّ يوم. كنا أصدقاء هنا في إنجلترا، في المدرسة والجامعة، ولا يزال يوجد كثيرون ممن يتذكَّرون الشبهَ بيننا. على الرغم من أنني قد ألعب دوري على نحوٍ مثالي، فقد تظهر شكوكٌ من وقت لآخر. ولن تكون هناك شكوك بعد ذلك إذا سحبَتني عجلات عربة الأميرة.»


سكت سيمان للحظة.


واعترف بعد وقتٍ قصير: «إن ما تقوله منطقي.» وتابع: «هذا لبضعة أشهر فقط. ما اقتراحك؟»


اقترح دوميني بلهفة: «أن تُقابل الأميرة بدلًا مني على الفور.» وأضاف: «وضِّح لها أنه في الوقت الحاضر، ولأسباب سياسية، يجب أن أبقى إيفرارد دوميني، في نظرها وكذلك في نظرِ بقية العالم. دعْها تكتفِ بهذا القدر من الصداقة والإعجاب الذي يمكن أن يُقدِّمه السير إيفرارد دوميني بشكلٍ معقول لامرأةٍ جميلة التقى بها اليومَ للمرة الأولى، وأنا سأكون في خدمتها بالكامل وبكل قلبي. لكن دعْها تتذكَّر أنه حتى بيننا، نحن الاثنين، سأكون إيفرارد دوميني فحسب، سواءٌ كنا بمفردنا في غرفتها أو في قاعة الاستقبال حيث قد نلتقي، حتى تنتهيَ مهمتي. ربما تظن أنني أركِّز على هذا بلا داعٍ. غير صحيح. أنا أعرف الأميرة وأعرف نفسي.»


نظر سيمان إلى الساعة. «في أيِّ ساعة كان موعدك؟»


أجاب دوميني: «لم يكن موعدًا، لقد كان أمرًا.» وأضاف قائلًا: «قيل لي أن أكون في ميدان بلجريف في الساعة السابعة.»


وعد سيمان وهو يرفع قبَّعته: «سأتفاهم مع الأميرة.» وأردف قائلًا: «تناوَل العَشاء معي في الطابَق السفلي الساعة الثامنة لدى عودتي.»


نزل دوميني بعد نحو ساعة، ووجد صديقه سيمان جالسًا بالفعل على طاولة صغيرة بعيدة معَدَّة في أحد الأجزاء الخفية في مطعم المشويات. لوَّح له سيمان مُرحِّبًا بمجيئه، وطُلِبَت المشروبات على الفور.


أعلن سيمان: «لقد أنجزت مهمَّتك.» وتابع قائلًا: «منذ زيارتي، لا بد لي من الاعتراف بأنني أُدرك قلقكَ إدراكًا كاملًا.»


«ربما لم تُقابل الأميرة من قبل؟»


«لم أفعل. يجب أن أعترف بأنني وجدتُها سيدةً ذات مِزاج متسلِّط إلى حدٍّ ما. أتخيَّل، يا صديقي الشاب» تابع سيمان، مع رِعشة في جانب شفتَيه: «أنه في يومٍ ما في شهر أغسطس من العام المقبل ستكون مشغولًا جدًّا.»


كان الردُّ الرائع: «لن أَشغَل بالي بأغسطس من العام المقبل.»


تابع سيمان: «في الوقت الحالي، تتفهَّم الأميرة الموقف وهي، على ما أظن، متأثرة. على أي حال لن تُقْدِم على أي تصرُّف متهوِّر. ستلتقي أنت وهي في غضون الساعات القليلة القادمة، ولكن وفقًا لشروطٍ معقولة. لنمضِ قُدمًا! أثناء عودتي إلى هنا بعد مقابلتي مع الأميرة، قرَّرت أن الوقت قد حان لمقابلة الشخص المسئول بشكل رئيسي عن وجودك هنا.»


«تيرنيلوف؟»


«بالضبط! لقد التزمتَ، يا صديقي الشاب»، أكمل سيمان بعد توقُّفٍ قصير، أحضر خلاله نادلٌ المشروبات وتلقَّى آخرُ طلبَهما للعشاء، «بصمتٍ شديد التكتُّم، وجديرٍ بالثناء فيما يتعلق بتلك التعليمات الإضافية التي وُعدت بها فورَ وصولك إلى لندن. هذه التعليمات لن تُكتَب أبدًا. إنها هنا.»


لمس سيمان جبهتَه وتجرَّع ما تبقَّى من كأسه.


علَّق دوميني: «تعليماتي هي أن أثق بك ثقةً مطلقة، وحتى تندلعَ الأحداث الكبرى، أن أركِّز الجزء الأكبر من طاقاتي في أن أعيشَ الحياة الطبيعية للرجل الذي اتخذتُ اسمه ومكانته.»


وافقه سيمان: «بالضبط.»


جال بناظِرَيه في الغرفة لحظة أو اثنتين، كما لو كان مهتمًّا بالناس. وبعدما شعر بالرضا أخيرًا لعدم وجود فرصةٍ لأن يسمعه أحد، تابع:


«الفكرة الأولى التي يجب أن تُخرجها من رأسك، يا صديقي العزيز، إذا كانت موجودة، هي أنك جاسوس. أنت لستَ كذلك. أنت لست مرتبطًا بأدنى درجةٍ بنظام تجسُّسنا المثالي على نحوٍ رائع. أنت عميل حرٌّ في كلِّ ما قد تختار أن تقوله أو تفعلَه. يمكنك أن تؤمن بألمانيا أو تخشاها — أيًّا كان ما تريد. يمكنك الانضمامُ إلى زوج ابنة عمك في حملته للخدمة الوطنية، أو يمكنك الانضمام إليَّ في جهودي لتوطيد أواصر الصداقة والمودة بين مواطني البلدَين. نحن حقًّا لا نهتمُّ على الإطلاق. اختر دورَك. انخرِط انخراطًا تامًّا في حياة السير إيفرارد دوميني، البارون، من دوميني هول، نورفولك، واتَّبع بالضبط المسارَ الذي تظنُّ أن السير إيفرارد نفسه كان من المحتمل أن يسلكه.»


اعترف دوميني: «هذا تفكير واسعُ الأفق للغاية.»


كان الرد السريع: «إنه المنطق السليم.» وتابع قائلًا: «مع كل قدراتك، لا يمكنك في غضون ستة أشهر التأثيرُ بشكل ملحوظ على الموقف في كلتا الحالتين. لذلك، نختار أن تُركِّز كلَّ طاقاتك على مهمةٍ واحدة، ومهمة واحدة فقط. إذا كان ثمة أيُّ شيء يتعلق بالتجسُّس في مهمتك هنا، فليست مسألة إنجلترا أو الإنجليز هي ما يجب أن يَلفت انتباهَك. نطلب منك التركيز بشكلٍّ كامل على تيرنيلوف.»


أصاب الذهول دوميني.


كرَّر: «تيرنيلوف؟» وتابع قائلًا: «كنت أتوقَّع العمل معه، لكن …»


أمرَ سيمان: «أفرِغْ عقلك من كل الأفكار المسبَقة.» وأردف قائلًا: «سوف تعتاد واجباتَك المتعلقة بتيرنيلوف تدريجيًّا مع تطوُّر الموقف.»


علَّق دوميني قائلًا: «لكنني لم أقابله حتى الآن.»


«كنتُ على وشك إخبارك، في وقت سابق من محادثتنا، أنني حددتُ موعدًا لك لمقابلته في الساعة الحادية عشرة ليلًا في السفارة. ستذهب إليه في تلك الساعة. تذكَّر، أنت لا تعرف شيئًا، أنت تنتظر التعليمات. دعِ الحديثَ له وحده. احرص حرصًا خاصًّا على ألا تترك له تلميحًا عن معرفتك بما سيحدث. سوف تجده راضيًا تمامًا عن الموقف، راضيًا تمامًا. احرص على عدم إزعاجه. إنه مبشِّر بالسلام. وأنت أيضًا.»


قال دوميني بتمعُّن: «بدأتُ أفهم.»


وعَدَه سيمان قائلًا: «ستفهم كلَّ شيء عندما يحينُ الوقت لتقدِّم يدَ العون، ولا تنسَ في خضمِّ حماسك، يا صديقي، أن النفع الذي ستُسديه لقضيتنا العظيمة سيعتمد إلى حدٍّ كبير على قدرتك على توطيد موقعِك بوصفك رجلًا إنجليزيًّا نبيلًا والحفاظِ عليه. هل تسير الأمور على ما يُرام حتى الآن؟»


أجاب دوميني: «على نحوٍ مثالي، على حدِّ علمي.» وتابع قائلًا: «يجب أن تتذكَّر، مع ذلك، أن لك دورًا عليك فعْله. ستتلقى برلين رسائلَ محمومةً من شرق أفريقيا بخصوص اختفائي. وذلك لأنني لم أُطلِعْ حتى زملائي المقربين على السر.»


أكَّد سيمان لرفيقه: «كلُّ هذا مفهوم.» وأردف قائلًا: «أنفق طبيبٌ صغير يُدعى شميدت الكثيرَ من أموال الحكومة في برقياتٍ محمومة. لا بد أنه كان يُحبك جدًّا.»


«لقد كان زميلًا مخلصًا جدًّا.»


«لقد كان صديقًا مزعجًا للغاية. يبدو أن قصص السكان الأصليين اختلطَت فيما يتعلَّق بسَمِيِّك، الذي يبدو أنه لقي حتفَه في الأدغال، وشدَّد شميدت باستمرار على وعدك بالسماح له بمعرفةِ الأخبار من كيب تاون. ومع ذلك، فقد تم التعامل مع كلِّ هذا على نحوٍ مُرضٍ. الأخطار الحقيقية الوحيدة موجودة هنا، وحتى الآن يبدو أنك واجهتَ الأخطار الرئيسية.»


صرَّح دوميني: «لقد قُبِلتُ، على أي حال، من قِبَل أقربِ قريبة لي على قيد الحياة، وبالمصادفة اكتشفتُ الشخص الوحيد الذي يتمتَّع ببُعد نظر في إنجلترا والذي يعرف ما يُخبئه لنا المستقبل.»


توتَّر سيمان لحظة.


«مَن تقصد؟»


«دوق ورسستر، زوج ابنة عمي، الذي كنتَ تتحدَّث عنه للتو.»


استرخى وجه الرجل القصير.


وقال: «إنه يُذكرني بالشخص الغبي الذي أنقذ مبنى البرلمان الأميركي، رجل بلا عقل مهووس بفكرة واحدة. من الغريب أنه غالبًا ما يكتشف هؤلاء المتعصبون الحقيقة. ذلك يُذَكِّرني بأمر» أضاف، وهو يُخرج دفترَ مذكرات صغيرًا من جيب الصدرية ويُلقي نظرة خاطفة عليه: «نيافته لديه لقاء الليلة في مبنى بلدية هولبورن. سأقوم بواحدة من مقاطعاتي المعتادة.»


استفسر دوميني: «إذا كان لديه عدد صغير جدًّا من الأنصار، فلماذا لا تدَعُه وشأنَه؟»


كان الرد الهادئ: «يوجد آخرون مرتبطون به، ممن لا يُستهان بهم. علاوة على ذلك، عندما أقاطع أعلِن عن هوايتي الصغيرة.»


علَّق دوميني وهو يُلقي نظرةً خاطفة على الغرفة بعد توقُّف قصير لكن مدروس: «هؤلاء … نحن الإنجليزَ أناسٌ غريبون.» وأضاف قائلًا: «نحن نعلن عن ثروتنا الهائلة ونتفاخر بها، ومع ذلك فنحن غير قادرين على بذلِ أدنى التضحيات بالنفس من أجل الحفاظ عليها. كان يمكن للمرء أن يتصوَّر أن فلاسفتنا، ومؤرِّخينا، سيُحذروننا من المستقبل بعباراتٍ لا تُقاوم، من خلال استنتاج عِلمي دامغ.»


غمغم سيمان بانحناءة بسيطة: «تحياتي لكم.» وتابع قائلًا: «بمناسبةِ ما كنت تقوله، لن تتمكن أبدًا من جعل رجل إنجليزي — أستميحك عذرًا، أحد أبناء وطنك — يدرك أيَّ شيء غير سار. إنه يُفضِّل أن يُبقيَ رأسه مرتاحًا في الرمال. ولكن لنترك التعميم جانبًا، متى تُفكر في الذَّهاب إلى نورفولك؟»


أجاب دوميني: «في غضون الأيام القليلة المقبلة.»


أعلن رفيقه: «سأتنفس بحريةٍ أكبرَ عندما تستقر بأمان هناك.» وأضاف قائلًا: «أشياء عظيمة تنتظر قَبولك الكامل، في الريف وكذلك في المدينة، بوصفك السير إيفرارد دوميني. هل أنت متأكد من أنك تفهم تمامًا مكانتك هناك فيما يتعلق بشئونك الداخلية؟»


كان الرد القاسي نوعًا ما: «أفهم كلَّ ما هو ضروري.»


رد سيمان بانفعال: «كلُّ ما هو ضروري لا يكفي.» وأردف قائلًا: «ظننت أنك انتزعت القصةَ بأكملها من ذلك الرجل الإنجليزي المخمور؟»


«قال لي معظمَها. كانت ثَمة نقطة أو نقطتان فقط تتجاوز الحدود التي يمكن فيها الاستجواب.»


عبس سيمان بغضب.


واشتكى قائلًا: «بعبارة أخرى، لقد تذكَّرت أنك رجل نبيل وليس أنك ألماني.»


قال دوميني: «الرجل الإنجليزي الذي يتمتَّع بمكانةٍ معينة، على الرغم من كونه منحطًّا، يتميز بعنادٍ معيَّن، مرتبط بشكل عام بشيء معيَّن، لا يمكن لأي شيء كسرُه. تحدَّثنا معًا في تلك الليلة الأخيرة حتى الصباح؛ وشربنا الخمر والبراندي. وانتزعتُ من داخلي قصة نفيي وأفشيتُ له بها. ومع ذلك، كنتُ أعرف طوال الوقت، كما أعرف الآن، أنه أخفى عني شيئًا ما.»


كان هناك توقفٌ قصير. خلال الدقائق القليلة الماضية، تسلل التوترُ بين الرجلين. ومعه، بدا أن خصائصهما الشخصيةَ ازدادت حدَّة. كان دوميني أرستقراطيًّا أكثرَ من أي وقتٍ مضى؛ وسيمان متآمرًا عاميًّا، بلا خجل وبشكل جاد للغاية. بعد وقت قصير مال قليلًا نحو الطاولة. وضاقت عيناه لكنهما كانتا لامعتين مثل الفولاذ. وكانت أسنانه بارزةً أكثر من المعتاد.


قال بإصرار: «كان يجب أن تنتزعه من حلقه.» وتابع قائلًا: «ليس من واجبك رعايةُ المشاعر الشخصية الجميلة. أنت لقد تعهَّدت بقلبك وروحك بأمورٍ عظيمة. لا يمكنني في هذه اللحظة أن أعطيَك أيَّ فكرة عما قد لا تعنيه لنا بعد حدوث المشكلة، إذا كنتَ ما زلتَ قادرًا على لعب دورك في هذا البلد بوصفك إيفرارد دوميني، من دوميني هول. أعلم جيدًا أن الإحساس بالشرفِ الشخصيِّ بين الطبقة الأرستقراطية البروسية هو الأفضل في العالم، ومع ذلك لا يوجد رجلٌ واحد من مكانتك ليس مستعدًّا للكذب أو الغش من أجل بلاده. يجب أن تصطفَّ مع زملائك. مرةً أخرى، ما يجعل الاعترافَ بك بوصفك إيفرارد دوميني مهمًّا جدًّا لنا، ليس مهمتك المتعلقة بتيرنيلوف فقط. إنها الأشياء التي ستأتي لاحقًا. هيا، كفانا حديثًا عن هذا الموضوع. أعلمُ أنك تفهم. أصبحنا جادَّين جدًّا. كيف ستقضي مساءك حتى الساعة الحاديةَ عشرة؟ تذكَّر أنك لم تكن ناسكًا عندما تركتَ إنجلترا يا سير إيفرارد. يجب أن يكون لديك وسائلُ الترفيه الخاصة بك. لماذا لا تُجرِّب قاعات الموسيقى؟»


اعترض دوميني على ذلك قائلًا: «إن عقلي مشحونٌ للغاية بأشياءَ أخرى.»


اقترح الرجل القصير: «إذن تعالَ معي إلى هولبورن.» وأضاف قائلًا: «ستستمتع بها. سوف نفترق عند الباب، وتجلس في آخر الصالة، بعيدًا عن الأنظار. ستستمع إلى البلاغة المؤثِّرة لزوج ابنة عمِّك. ستسمعه وهو يُحاول تحذير رجال ونساء إنجلترا من الخطر الذي يترقَّبهم من الأمة الألمانية العظيمة والجشعة. ما رأيك؟»


أجاب دوميني بفتور: «سآتي.» وأردف قائلًا: «ستكون أفضلَ من قاعة الموسيقى، على أي حال. لست متأكدًا على الإطلاق، يا سيمان، من أن أصعبَ جزء من مهمتي هنا لن يكون هذه الحاجة إلى وسائل الترفيه التي سأفرضها على نفسي.»


ضرب رفيقُه الطاولةَ بلطفٍ ولكن بنفاد صبر بقبضته المضمومة.


وصاح: «يا رجل، أنت شاب!» وتابع قائلًا: «أنت مثلُ بقيتنا. ما زلتَ في مقتبل حياتك. لا تُنعش أحزان الماضي. ألقِ ذكراها بعيدًا. لا يوجد شيء يُضيِّق على الرجل أكثر من الكآبة. لديك ماضٍ قد يجلب الأشباح حولك أحيانًا، لكن تذكَّر أن الخطيئة لم تكن بالكامل خطيئتَك، وثَمة تكفيرٌ يمكن أن تبدأ في تنفيذه بطريقة محسوبة متى شئت. لقد قلتُ ما يكفي عن ذلك الأمر. العظمة والبهجة صِنوان. أرأيت! كنتُ فيلسوفًا قبل أن أصير أستاذًا للدعاية. جيد! أنت تبتسم. هذا شيء مُحْرَز، على أي حال. الآن سنأخذ سيارة أجرة إلى هولبورن وسأريك شيئًا مضحكًا حقًّا.»


عند مدخل مبنى البلدية، افترق الرجلان، بتحريض من سيمان، وشقَّا طريقهما إلى الداخل من بابَين مختلفين. وجد دوميني مقعدًا منعزلًا تحت شرفة، حيث من غير المرجَّح أن يتعرف عليه أحدٌ من المنصة. من الناحية الأخرى، شغل سيمان موقعًا أبرز في نهاية أحد الصفوف الأمامية للمقاعد. لم يكن الاجتماع بأي حال من الأحوال مكتظًّا أو مفرطَ الحماس أو مفرطًا في أي شيء. كانت توجد صفوفٌ من المقاعدِ الفارغة، والكثيرُ من الأزواج الشباب الذين بدا أنهم قد أتَوا بحثًا عن ملجأ من الليل العاصف، وقلةٌ من التجار الأقوياء الذين يتمتَّعون بمظهرٍ محترم والذين جاءوا لأن هذا يبدو شيئًا محترمًا يجب القيام به، وعددٌ قليل من المهتمِّين اهتمامًا حقيقًا، ومتحمسون متناثرون هنا وهناك، على الرغم من أنهم كانوا بالتأكيد أقلية. على المنصة كان الدوق، مع شخصياتٍ مدَنية بارزة على جانبيه؛ جندي مشهور، وعضو في البرلمان، ونصف دُزينة أو نحو ذلك من سكان الحي العاديِّين، والنقيب بارترام. كان الاجتماع على وشك البدء عندما استقرَّ دوميني في ركنه.


بادئ ذي بدء، نهض الدوق، وقدَّم صديقه الشاب النقيب بارترام ببضعِ جملٍ مبتذَلة، ولكنها جادة. وهذا الأخير، الذي اندفع على الفور إلى منتصف موضوعه، كان متوترًا وفظًّا إلى حدٍّ ما. أوضح أنه استقال مِن عمله ومن ثَمَّ كان يملك حرية التعبير عن رأيه. وتحدَّث عن الاستعدادات العسكرية الهائلة في ألمانيا والجوِّ العام لتوقُّع التوتر. وضد مَن كانت هذه الاستعدادات؟ من دون شك مادي ضدَّ منافس ألمانيا الأكبر، الذي فضَّل الملايينُ من شبابه، حتى في هذه الساعة الخطرة، لعبَ كرة القدم أو الكريكيت أو مشاهدتها في أوقات بعد الظهر أيامَ السبت عن إدراك واجبهم. قاطع ختام الخطابَ غيرَ الهادف، بالرغم من كونه جادًّا، الدخولُ المختلس إلى القاعة لصبيٍّ صغير يبيع الصحف المسائية، وتوقَّف الجزءُ الأصغر سنًّا من الجمهور مؤقتًا عن الاهتمام بسير الجلسة، بينما استمتعوا بمعرفة نتيجة مختلف مباريات الكأس. عندئذٍ باغتَهم عضوُ البرلمان بإعصار من الخطابة وبأسلوبه الأفضل في مجلس العموم. تحدَّث عن السُّحب السوداء والنسيم البارد الذي حلَّ قبل العاصفة الرعدية القادمة. وأشار إلى انهيار كلِّ أمة عظيمة عبر التاريخ أهملَت فنون الدفاع عن النفس. وناشد شبابَ الأمة أن يستعدوا لحماية نسائهم، ومنازلهم، وتراب بلادهم المقدَّس، وفي تلك المرحلة قاطعه فردٌ ناعس من الجمهور، بدا أنه قد استيقظ في تلك اللحظة، بصوت جَهْوري.


«ماذا عن البحرية، أيها المحافظ؟»


تحرَّك الخطيب بسرعةٍ نحو المُقاطِع بطريقته الشهيرة على المنصة. وأعلن أنه يمكن الوثوقُ في جميع الأوقات في أن البحرية ستؤدي واجبَها، لكنها لا تستطيع القتال في البحر والبر. هل سيفعل الشابُّ الذي قاطعه للتو ذلك، ويُسجل اسمه للتدريب والخدمة الوطنية في ذلك المساء؟ — وما إلى ذلك. أطلق الجنديُّ المشهور الذي كان يعاني نزلةَ برد، بعضَ جُمل بصوتٍ أجشَّ، على صوت جولات من التصفيق. اختُتِمَت الفعاليات بواسطة الدوق، الذي كان من الواضح أنه، باستثناء الجندي المشهور، كان أكثرَ جدية من أيٍّ منهم، وحصل بشكل عام على اهتمامٍ يتَّسم بالاحترام. وذكر بعض التلميحات التاريخية، ودعا إلى وجود روحٍ أكبرَ من الجدية والمواطنة بين رجال البلد، وناشد حتى النساء تنميةَ إحساسهن بالمسئولية، وجلس وسْط موجة من التصفيق الحماسي. كان اقتراحُ توجيه خطاب شكر للرئيس على وشك الحدوث عندما ناشد السيد سيمان، واقفًا في مكانه، الرئيسَ للسماح له بقول بِضع كلمات. نظر الدوق، الذي كان لديه بعضُ الخبرة مع السيد سيمان من قبلُ، إليه بحدَّة، لكن الابتسامة التي نظر بها السيد سيمان حوله للجمهور كانت لطيفةً للغاية وجذابة، لدرجةِ أنه لم يكن لديه بديلٌ سوى الموافقة. صعد سيمان الدَّرَج إلى المنصة، وسعل معتذرًا، وانحنى للدوق، واستحوذ على الاجتماع. بعد كلمة أو كلمتين من المجاملة للرئيس، أدلى باعترافه. لقد كان مواطنًا ألمانيًّا — لقد كان بالفعل أحدَ أبناء ذلك العِرْق المتعطش للدماء. (بعض الضحك.) لقد كان أيضًا، وكان ذلك مبرِّرَه للوقوف هناك، مؤسسَ وسكرتيرَ رابطةٍ معروفة جيدًا لهم بلا شك، رابطةٍ لتعزيز المزيد من العلاقات الودية بين رجال الأعمال في ألمانيا وإنجلترا. وقد تألم بشدةٍ من بعض الملاحظات التي سمعها ذلك المساء. كثيرًا ما ذهب بداعي العمل إلى ألمانيا، وباعتباره ألمانيًّا، فسيُعتبر مقصرًا في واجبه إذا لم يقف هناك ويُخبرهم أن الألماني العاديَّ يحبُّ الرجل الإنجليزي مثل أخيه، وأن هدف حياته هو الدخول في صلةٍ أكبر معه، وأن ألمانيا حتى في تلك اللحظة كانت تقف ويدُها ممدودة إلى أقاربها عبر بحر الشمال، ترجو تعاطفًا أعمقَ، وفهْمًا أكبر. (تصفيق من الجمهور، وهمهمات معارضة من المنصَّة.) وفيما يتعلَّق بتلك الاستعدادات العسكرية التي سمعوا عنها كثيرًا (مع نظرةٍ فاحصة للنقيب بارترام)، دعْهم ينظرون لحظةً واحدة إلى حدود ألمانيا، دعْهم يُدركون أن ألمانيا من ناحية الشرق تتعرض لضغوطٍ مستمرة من قِبل عدوٍّ قديم وتاريخي يتمتع بقوة هائلة. ولن يُضيع وقتهم في إخبارهم بالصعوبات السياسية التي كان على ألمانيا أن تُواجهها خلال الجيل الأخير. بل سيُخبرهم ببساطة بهذه الحقيقة العظيمة — أن العدو الذي اضطُرَّت ألمانيا من أجله إلى اتخاذ هذه الاستعدادات العسكرية العظيمة هو روسيا. وإذا استُخدِمَت في أي وقت، فسيكون ذلك ضدَّ روسيا، وباستفزاز من روسيا. وبطريقته المتواضعة كان يسعى إلى تحسين العلاقات بين البلد الحبيب الغالي الذي وُلد فيه، والبلد المحبوب بنفس القدر الذي تبنَّاه. تلك الاجتماعات، التي أُقيمت، كما بدا له، لنشر شكوكٍ غير عادلة وغير مبرَّرة، كانت واحدةً من أكبر الصعوبات في طريقه. لم يكن يمكنه الشكُّ للحظة في وطنيةِ هؤلاء السادة على المنصة. وسيُثبتون ذلك بشكلٍ أكثرَ إفادة، سواءٌ لأنفسهم أو لبلدهم، إذا تخلَّوا عن حملتهم الحاليَّة المتحيزة والضارة، وأصبحوا أنصارًا لرابطته.


كانت انحناءةُ سيمان البسيطة للرئيس مرحةً، ومتسامحة، وحزينة بعضَ الشيء. لم تفعل كلماتُ الدوق القليلة، التي استُهِلَّت باحتجاجٍ ساخط على تدخُّل داعيةٍ ألماني في اجتماع وطني إنجليزي، شيئًا لإبطال التأثيرِ الذي أحدثَه هذا الغريبُ غير المرغوب فيه. عندما انفضَّ الاجتماع، كان من غير المؤكَّد ما إذا كان قد اكتُسِب نصيرٌ واحد لقضية الخدمة الوطنية. عاد الدوق إلى المنزل مفعمًا بالغضب، وضحك سيمان ببهجةٍ حقيقية عندما صعد إلى سيارة الأجرة التي كان دوميني قد أوقفها، عند زاوية الشارع.


علَّق: «لقد وعدتُك بالترفيه.» وأضاف قائلًا: «اعترف أنني أوفيتُ بوعدي.»


ابتسم دوميني بغموض. وقال: «لقد نجحتُ بالتأكيد في استغفال عددٍ من الرجال المحترمين وذوي النوايا الحسنة.»


قال سيمان موافقًا: «إن المعجزة تمتدُّ إلى أبعدَ من ذلك. والليلة، مع بساطتها، هي مثال سامٍ على الحماقات المتعالية للديمقراطية. فإنجلترا تختنق ببطءٍ وتتقيَّد بالكثير من الحرية. إنها مثل طفلة أفرطَت في أكل المربَّى. تخيَّل، في بلدنا العزيز، أن يُسمح لرجلٍ إنجليزي باعتلاء المنصة والتحدُّث بإسهاب دون إزعاج بدعاية إنجليزية في معارضةٍ مدمِّرة للمصالح الألمانية. إن ما يُسمى بحريةِ الرجل الإنجليزي مثل الوقواق في عُشِّه السياسي. يجب أن تُحكم البلدان. لا يمكنها أن تحكم أنفسها. وقت الحرب سيثبت كلُّ ذلك.»


تساءل دوميني: «مع ذلك، في أي أزمةٍ كبيرة في تاريخ أمة، من المؤكد أن ثَمة أمانًا في وجود العديد من المستشارين، أليس كذلك؟»


أجاب سيمان: «سيوجد دائمًا عددٌ كبير من المستشارين في ألمانيا كما في إنجلترا. مشكلة هذا البلد هي أنه سيُعَبَّر عنهم جميعًا علنًا وفي الصحافة، وسيكون لكل رأي أنصارُه، وستُقَسَّم الحكومة إلى أحزاب. في ألمانيا، يُقَرَّر المصير الحقيقي للبلاد في الخفاء. يوجد مستشارون هناك أيضًا، مستشارون جادون وحكيمون، لكن لا أحد يعرف وجهات نظرهم المختلفة. كلُّ ما يعرفه المرءُ هو النتيجة، التي تنطق بها شفتا القيصر، ويُنطَق بها على نحوٍ حاسم.»


كان دوميني يُظْهِر أماراتِ اهتمامٍ نادرٍ بمحادثة رفيقه. كانت عيناه لامعتَين، وبدا أن ملامحه التي عادة ما تكون فاقدة الحس قد زادت قدرتُها على الحركة والتعبير عن القلق. وضع يده على ذراع سيمان.


وقال: «اسمع، نحن في لندن، وحدنا في سيارة أجرة، آمنان من أي تنصُّت محتمل. أنت تُبشر بميزة أن يقودَ القيصرُ بلدنا. هل تعتقد حقًّا أن القيصر هو الرجل المناسب للمهمة القادمة؟»


لمعت عينا سيمان الضيِّقتان. ونظر إلى رفيقه بارتياح. تجعَّد جبينه، واختفت ابتسامتُه الدائمة. كان رجلًا ذكيًّا.


صاح: «ها أنت ذا تستيقظ من سُبات أفريقيا يا صديقي! لقد بدأتَ في التفكير.» وتابع قائلًا: «كما سألتَني، سأجيب. القيصر حالم مغترٌّ متحذلق، أكبرُ مغرور عاش على الإطلاق، بشخصية مريضة، وتوقٍ متواصل للأضواء. لكنه أيضًا عبقريٌّ في الحكم. أعني أنه وسيط رائع للتعبير عن القوة العقلية لمستشاريه. سوف تمرُّ كلماتهم من خلال شخصيته، وسوف يُصدِّق أنها كلماته. علاوة على ذلك، سوف تبدو كأنها كلماتُه. سيرى نفسه الفارسَ ذا الدرع اللامع. وسوف تنحني كل أوروبا أمام هذا القيصر الخيالي، ولن يُدرِك أحدٌ غيرنا، نحن الذين في الخلفية، مدى حماقته. لا يوجد أيُّ شخصٍ آخر قابلته في هذا العالم مناسب تمامًا لقيادة أمتنا العظيمة إلى المصير الذي تستحقه. والآن، يا صديقي، غدًا، إن شئتَ، سنتحدَّث عن هذه الأمور مرة أخرى. لديك الليلةَ أمورٌ أخرى لتُفكِّر فيها. أنت ذاهبٌ إلى الأماكن العظيمة التي لا أتدخَّل فيها أبدًا. لديك ساعة لتغيير ملابسك والاستعداد. يتوقَّع الأمير فون تيرنيلوف مجيئك في الساعة الحادية عشرة.»



الفصل السابع

أُقيم حفل عشاء وحفل استقبال صغير للغاية بعد ذلك في السفارة العظيمة في كارلتون هاوس تيراس. كان السفير، الأمير تيرنيلوف، يودِّع ابنة عمِّ زوجته، الأميرة إيدرستروم، آخرَ ضيوفه. أخذتْه جانبًا للحظة.


قالت: «كنتُ أتمنى أن أتحدَّث مع سموك طوال المساء.»


أجاب: «وأنا أيضًا يا عزيزتي ستيفاني.» وتابع قائلًا: «الوقت مبكِّر جدًّا. دعينا نجلس للحظة.»


قادها نحو أريكةٍ لكنها هزَّت رأسها.


وقالت: «لديك موعدٌ في الساعة الحادية عشرة والنصف.» وأضافت قائلةً: «وأتمنى أن تلتزم به.»


«أنت تعلمين بشأنه إذن؟»


«تناولتُ طعام الغداء اليوم في مطعم المشويات بفندق كارلتون. والتقيتُ في غرفة الاستقبال وجهًا لوجه مع ليوبولد فون راجاشتين.»


لم يُبْدِ السفير أيَّ ملاحظة. بدا أن رغبته هي أن يسمع أولًا كلَّ ما تقوله رفيقته. بعد لحظةِ توقُّف واصلت:


«تحدثتُ إليه، وأنكر نفسَه. لي! أظن أن تلك كانت أسوأَ لحظات حياتي. لم أعانِ هكذا من قبل. ولن أعاني كثيرًا مرة أخرى.»


تمتم الأميرُ متعاطفًا: «هذا أمرٌ مؤسف للغاية.»


تابعت قائلةً: «هذا المساء، تلقيت زيارةً من رجلٍ اعتبرته في البداية عضوًا ضئيلًا من الطبقة الوسطى الألمانية. لكنني علمت شيئًا عن مركزه الحقيقيِّ لاحقًا. جاء لي ليشرح أن ليوبولد كان يعمل في هذا البلد في المخابرات السرية، مستخدمًا الاسم الذي أعطاني إياه، السير إيفرارد دوميني، بارونيت إنجليزي، فُقِد منذ مدةٍ طويلة في أفريقيا. هل تعرف أيَّ شيء عن هذا الأمر؟»


«أعلم أنني سأتلقَّى هذه الليلةَ زيارةً من السير إيفرارد دوميني.»


«هل سيعمل تحت رعايتك؟»


ردَّ الأمير بشكل ودي: «على الإطلاق، فأنا لا أميل بشكل إيجابي نحو شبكة التجسس هذه. فمدرسة الدبلوماسية التي نشأتُ فيها تُحاول العمل من دون مثل هذه الوسائل الدنيئة.»


قالت: «أنا أدركُ ذلك.» وأردفت قائلةً: «لكن ليوبولد قادم، الليلة، ليُعرب عن احترامه لك.»


أكَّد السفير: «إنه ينتظرني الآن في مكتبي.»


تابعت: «ستُسدي لي معروفًا وتنقل له رسالة مني.» وتابعت قائلةً: «أشار هذا الرجل سيمان لي إلى عدم حكمة وجود أيِّ علاقة بيني وبين ليوبولد، في ظل الظروف الحاليَّة. لقد استمعت إلى كل ما قاله. واحتفظت بقراري. لقد نظرتُ الآن في الأمر. سأقبل بحل وسط للضرورة. سأرضى بالتعرُّف على السير إيفرارد دوميني، ولكني سأفعل ذلك.»


قال السفير مفكِّرًا: «من ناحيتي، لا أعرف حتى ما هي مهمة فون راجاشتين هنا، ولكن إذا قرَّروا في برلين أنه، من أجل الحفاظ الأكمل على وضعِ تخفِّيه، فإن العلاقة بينك وبينه أمر غير مرغوب فيه …»


وضعت أصابعها على ذراعه.


قالت له آمرةً: «توقَّف!» وأضافت قائلةً: «أنا لست من برلين. أنا لست ألمانية. أنا لست نمساويةً حتى. أنا مجَرية، ومع أنني على استعداد لمعرفة اهتماماتكم، إلا أنني لا أرغبُ في جعلها أهمَّ من حياتي الخاصة. إنني أضع شروطًا، لكنني لا أستسلم. وسأناقش هذه الشروط مع ليوبولد. آه، كن لطيفًا معي!» واصلت، مع تغيير مفاجئ في صوتها. «منذ هذه الدقائق القليلة في منتصف النهار، عشت في حلم. شيء واحدٌ فقط يمكن أن يُهدِّئني. يجب أن أتحدَّث معه. يجب أن أقررَ معه ما سأفعله. هل ستساعدني؟»


أقر قائلًا: «التعارف بينكِ وبين السير إيفرارد دوميني هو بالتأكيد أمرٌ طبيعي تمامًا.»


قالت متوسلةً: «انظر إليَّ.»


استدار ونظر في وجهِها. كانت توجد خطوطٌ داكنة تحت عينيها الجميلتين؛ وكان ثَمة شيء يبعث على الشفقة في انثناءةِ فمها. تذكَّر أنه على الرغم من أنها كانت تتحرك طوال المساء بكل كرامة، وهو ما كان أمرًا فِطريًّا لديها، فقد سمِع أكثر من تعليق متعاطف عن مظهرها.


علَّق بلطف: «أستطيع أن أرى أنك تُعانين.»


تابعت: «عيناي متقدتان، وثمة لهيبٌ متأجج بداخلي.» وأضافت قائلةً: «يجب أن أتحدَّث إلى ليوبولد. طلبتْ مني فريدا البقاء والتحدُّث معها لمدة ساعة. سيارتي تنتظر. رتِّب معه أن يُقلَّني إلى المنزل. أوه! صدقني، يا صديقي العزيز، أنا امرأة تتمتَّع بإنسانية مرهفة، ولا يوجد شيء في العالم يمكن ربحُه بمعاملتي كما لو كنت مصنوعة من خشب أو حجر. يمكنُني أن أراه الليلة دون مراقبة. إذا رَفَضت، فسوف سأتخذ وسائلَ أخرى. لن أعطي أيَّ وعود. لن أعدك حتى أنني لن أصرخ أمامه في الشوارع بأنه كاذب، وأن حياته كذبة. سأدعوه ليوبولد فون راجاشتين …»


توسَّل إليها: «صه!» وأضاف قائلًا: «ستيفاني، أنتِ متوترة. لم أُجِب بعدُ على مناشدتكِ.»


«هل توافق؟»


وعدَها قائلًا: «أنا موافق.» وأردف قائلًا: «بعد مقابلتنا، سأحضر الشاب إلى غرفة فريدا وأقدِّمه لك. ستكونين هناك. يمكنه أن يعرض عليك مرافقته.»


انحنت فجأةً وقبَّلتْ يده. وبدا على وجهها ارتياح هائل.


وقالت: «الآن لن أؤخركَ أكثرَ من هذا. فريدا تنتظرني.»


تمشَّى السفير بهدوء باتجاه مكتبه في الجزء الخلفي من المنزل، حيث كان دوميني ينتظرُه.


قال الأول وهو يمدُّ يده: «أنا سعيد برؤيتك.» وتابع قائلًا: «أرغب في التحدُّث إلى شخصيتِك الحقيقية لمدة خمس دقائق. بعد ذلك، لبقية وقتك في إنجلترا، سأحترم هُويتك الجديدة.»


انحنى دوميني في صمت. أشار مضيفه إلى الخِوان.


تابع: «تعالَ، يوجد سيجار وسجائر بجوارك، وويسكي وصودا في صوان الخِوان. خذ راحتك على ذلك المقعد هناك. حقًّا لم تغيِّرك أفريقيا إلا قليلًا جدًّا. هل تتذكَّر لقاءنا السابق في ساكسوني؟»


«أتذكَّر ذلك تمامًا، يا صاحب المعالي.»


تابع السفير قائلًا: «لقد عرَف جلالة الملك كيف يحافظ على البلاط في تلك الأيام.» وأضاف: «كان المرء يميل إلى تصديق نفسه في حفلةٍ ريفية إنجليزية. ومع ذلك، فإن هذا شيء من الماضي. تعرفُ، بالطبع، أنني أرفض كليًّا وضعك الحاليَّ هنا، أليس كذلك؟»


«هذا ما فهمتُه، يا صاحب المعالي.»


قال الأمير وهو يُشعل سيجارًا: «لن يكون بيننا تحفُّظ.» وأردف قائلًا: «أعرف جيدًا أنك تُشكِّل في هذا البلد جزءًا من شبكة تجسُّس أعتبرها غيرَ ضرورية على الإطلاق. تلك ببساطة مسألة منهجية. ليس لديَّ شك في أنك هنا لنفس هدفي، الهدف الذي أعلن القيصرُ لي بشفتيه أنه الأقرب إلى قلبه؛ وهو توطيد أواصر الصداقة بين ألمانيا وإنجلترا.»


«هل تعتقد، يا سيدي، أن هذا ممكن؟»


كان الردُّ الجاد: «أنا مقتنعٌ بذلك.» وتابع قائلًا: «لا أعرف بالضبط طبيعة عملك هنا، لكنني سعيدٌ بأن تُتاحَ لي فرصة أن أعرض عليك قناعاتي. أعتقد أن شخصية بعض رجال الدولة البارزين في برلين قد أُسيء فَهمُها وتمثيلها. أجد في كلِّ من يحيط بي رغبة جادة وصادقة في السلام. لقد اقتنعتُ بأنه لا يوجد رجل دولة واحد في هذا البلد يرغبُ في الحرب مع ألمانيا.»


كان دوميني يستمعُ باهتمام، بطريقة شخص يسمع أمورًا غير متوقَّعة.


تجرَّأ وقال: «ولكن، معاليك، ماذا عن الأمر من وجهة نظرنا؟ يوجد كثيرون جدًّا في بلدنا، ممن أعرفُهم أنا وأنت، يتطلعون إلى حرب مع إنجلترا باعتبارها أمرًا لا مناص منه. نعتقد جميعًا أن ألمانيا يجب أن تُصبح أعظم إمبراطورية في العالم. يجب أن تصعد إلى هناك، كما قال أحدُ أصدقائنا ذات مرة، واضعة قدَمها على رقبة الأسد البريطاني.»


قال السفير بجدية: «تفكيرك عتيق، وعفا عليه الزمن.» وأضاف قائلًا: «فهمت الآن لماذا أرسَلوك إليَّ. لقد وَلَّتْ تلك الأيام. يوجد متَّسَع في العالم لبريطانيا العظمى وألمانيا. إن تفكُّك روسيا في المستقبل القريب أمرٌ مؤكَّد. يجب أن نبحث باتجاه الشرق عن أي توسُّع كبير في الأراضي.»


«هل بُتَّ في هذه الأمور؟»


«قطعًا! إنها تُشكِّل جوهرَ مهمتي هنا. إنني مفوَّض للسلام، وكلما رأيت رجال الدولة الإنجليز، وفهمت وجهة النظر البريطانية، زاد تفاؤلي بشأن نجاح جهودي. هذا هو السبب في أن كل هذا التجسُّس الخارجي الذي يهتم به سيمان إلى حد كبير يبدو لي أحيانًا غيرَ حكيم وغير ضروري.»


استفسر دوميني: «وماذا عن مهمتي؟»


أجاب الأمير: «لم يُكْشَف عن طبيعتها بعدُ، ولكن، كما فهمت، إذا كان من المفترض أن تُصبح مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بمهمتي، فأنا متأكدٌ من أنك ستجد على الفور أن موضوعها أيضًا هو السلام.»


نهض دوميني واقفًا، واستعدَّ للمغادرة.


وتمتم: «ستتكشَّفُ لنا هذه الأمور.»


قال تيرنيلوف بنبرةٍ مختلفة: «يوجد فقط موضوعٌ أكثرُ خصوصية إلى حدٍّ ما أريد أن أحدثك بشأنه.» وأردف قائلًا: «الأميرة إيدرستروم في الطابق العلوي.»


«في هذا المنزل؟»


«تنتظر أن تتحدثَ معك. صديقنا سيمان كان معها هذا المساء. أفهم أنها راضيةٌ عن الاشتراك في الوضع الحالي. ومع ذلك، فإنها تضعُ شرطًا واحدًا.»


«ما هو؟»


«إنها تُصرُّ على أن أُقَدِّمها إلى السير إيفرارد دوميني.»


لم يُحاول الأخير إخفاء قلقه.


واحتجَّ قائلًا: «لستُ بحاجةٍ إلى أن أوضح لك، يا سيدي، أن أيَّ علاقة بيني وبين الأميرة من المرجَّح أن تزيد إلى حدٍّ كبير من صعوبات موقفي هنا.»


تنهَّد السفير.


أقرَّ قائلًا: «أنا أقدِّر ذلك تمامًا.» وتابع قائلًا: «لقد سعيت أنا وسيمان للتفاهم معها، ولكن، كما تعلم بلا شك، الأميرة امرأة ذات إرادة قوية جدًّا. وتتمتَّع أيضًا بمكانة قوية هنا، وثمة رغبة ملحَّة من البلاط الملكي في برلين لتهدئة النبلاء المجريين بكل الطرق. ستفهم بالطبع أنني أتحدَّث من وجهة نظر سياسية بحتة. لا أستطيع أن أتجاهل حقيقة علاقاتك المؤسفة مع الأمير الراحل، ولكن عند النظر في الموقف الحالي، أنا متأكد من أنك ستتذكَّر المصالح الكبرى.»


سكت زائرُه للحظة.


وقال: «هل تقول إن الأميرة تنتظر هنا؟»


«إنها مع زوجتي وتطلبُ أن ترافقها للمنزل. كما تتطلَّع زوجتي إلى شرف تجديد تعارفِها بك.»


قرَّر دوميني: «سأقبلُ توجيهات سموك في هذا الشأن.»


كانت الأميرة تيرنيلوف امرأةً ذات ثقافة عالمية، وفنانة، وما زالت امرأة جذابة للغاية. استقبلَت الزائرَ الذي أحضره لها زوجها في غرفة صغيرة ساحرة للغاية مؤثَّثة على طرازِ أبسطِ حِقبة فرنسية، وبذلَت قُصارى جهدها لتخفيف توتُّرٍ ما فهمتْ أنه لا بد أن يكون لحظةً صعبة إلى حدٍّ ما.


قالت وهي تُمسك بيده: «يسعدنا أن نرحِّب بك في لندن، سير إيفرارد دوميني، وآمُل أن نراك هنا كثيرًا. أريد أن أقدِّمك إلى ابنة عمي، المهتمة بك، يجب أن أخبرك بصراحة، بسبب شبهك بصديق عزيز جدًّا لها. ستيفاني، هذا السير إيفرارد دوميني — الأميرة إيدرستروم.»


مدَّت ستيفاني، التي كانت جالسةً على الأريكة التي نهضت منها ابنةُ عمها لتوها، يدَها إلى دوميني، الذي انحنى لها بشكل رسمي للغاية. كان ثوبها أسودَ تمامًا. وحول رقبتها تومض ماساتٌ رائعة، وكانت ترتدي أيضًا إكليلًا على الطراز المجري، منخفضًا قليلًا على جبهتها. كان أسلوبها ونبرتها لا يزالان يشيران إلى قدرٍ من التمرد على الوضع.


سألت: «هل سامحتَني على إصراري هذا الصباح؟» وأضافت قائلةً: «كان من الصعب عليَّ أن أصدِّق أنك لم تكن حقًّا الشخصَ الذي حسبتُه أنت.»


أجاب دوميني: «تحدثَ معي أشخاص آخرون عن الشبَه.» وأردف قائلًا: «إنه لمن دواعي أسفي عدمُ قدرتي على ادِّعاء أنني لست أكثرَ من مجرد بارونيت من نورفولك.»


«ألا تملكُ أيَّ خبرة سابقة مع البلاط الملكي الأوروبي؟»


«على الإطلاق.»


«لغتك الألمانية نقيةٌ بشكل رائع مقارنةً برجلٍ قليل الأسفار.»


«اللغات كانت الإنجازَ الوحيد الذي حققتُه من أيام الدراسة المهدرة.»


استفسرَت الأميرة تيرنيلوف: «هل ستعطي كل اهتمامك لنورفولك، يا سير إيفرارد؟»


أجاب دوميني: «نورفولك قريبة جدًّا من لندن هذه الأيام، ولقد عشت أكثرَ من نصيبي من الوحدة خلال السنوات القليلة الماضية. آمل أن أقضيَ جزءًا من وقتي هنا.»


أصرَّت الأميرة: «يجب أن تتناول العشاء معنا ذات ليلة وتخبرنا عن أفريقيا. سيكون زوجي مهتمًّا جدًّا.»


«هذا لطفٌ منكِ.»


نهضت ستيفاني ببطء، وانحنت برشاقةٍ وقبَّلَت مضيفتها على خدَّيها، ومدت يدها إلى الأمير الذي رفعها إلى شفتيه. ثم التفتَت إلى دوميني.


وسألت: «هل ستتكرَّم وتُرافقني إلى المنزل؟» وتابعت قائلةً: «بعد ذلك، يمكن لسيارتي أن تأخذك إلى أيِّ مكان تختار الذهاب إليه.»


وافق دوميني على ذلك بقوله: «سأكون سعيدًا جدًّا.»


ودَّع، هو الآخر، مضيفَيه. سلَّمه خادمٌ في القاعة قبَّعته ومعطفه، واتخذ مكانه في السيارة بجانب ستيفاني. لمست المفتاح الكهربائي عندما تحرَّكا بسلاسة. وأظلمت السيارة.


تمتمت قائلة: «أظن أنني لم أستطِع تحمُّل لحظة أخرى من هذا التلاعب بالكلمات. ليوبولد — نحن وحدنا!»


لمح وميض مجوهراتها، وبريقَ عينَيها الناعمَ وهي تميل نحوه. بدا صوته، حتى لنفسه، قاسيًا وحادًّا.


«أنتِ مخطئة أيتها الأميرة. اسمي ليس ليوبولد. أنا إيفرارد دوميني.»


قالت بهدوء: «أوه، أعلم أنك عنيدٌ جدًّا، عنيد جدًّا ومخلص جدًّا لبلدك الرائع، لكن لديك روحٌ يا ليوبولد؛ أنت تعلم أنه توجد واجبات إنسانية توازي في عظَمتِها أيًّا من الواجبات التي فرضتها عليك دولتُك. أنت تعرف ما أبحث عنه فيك، ما يجب أن أجده فيك وإلا فلأذهبْ إلى الجحيم، شاعرةً بالخجل والبؤس.»


شعر بحلقه جافًّا فجأة.


تمتم: «اسمعي، حتى تأتيَ الساعة المرتقبة، يجب أن أبقى إيفرارد دوميني سواءٌ لكِ أو للعالم، وحدي أو وسط حشد. ثمة طريقة واحدة فقط لإنجاز مهمتي المحددة.»


بكت بقليلٍ من الهستيريا.


وتوسَّلَت: «انتظر.» وتابعت قائلةً: «سأُجيبُك بعد قليل. أعطِني يدك.»


فتح أصابعه التي كانت مضمومة، وشعر بقبضةِ يدها الساخنة تُمسك بيده بشغف، وتجذبها نحوها حتى وضعت أصابع يدها الأخرى عليها أيضًا. وجلسَت لعدة لحظات.


وتابعت بعد وقتٍ قصير: «ليوبولد، أتفهَّم الأمر. أنت تخشى أن أخون حبنا. لديك مبرِّر. فأنا مفعمة بالدوافع والشغف، كما تعلم، لكنني أستطيع أن أتحكَّم في نفسي. لا حاجة إلى معرفةِ أيِّ مخلوق في هذا العالم بطبيعة علاقتنا عندما نكون وحدنا. سأكون حذِرة. أقسِم لك. لن أنظر إليك أبدًا كما لو أن قلبي يتألم بملاحظتك، عندما نكون في حضور أشخاص آخرين. لا تأتِ إلا نادرًا كما تشاء. ولن أستقبلك إلا بقدرِ ما تقول. لكن لا تُعاملني بهذه الطريقة. قل لي إنك عُدت. تخلَّص من هذا القناع البشع، ولو للحظة فقط.»


جلس ساكنًا، رغم أن يدَيها كانتا تجذبان يديه، وشفتاها وعيناها تتوسَّلان إليه.


قال بتعنُّت: «أيًّا كان ما سيأتي بعد ذلك، حتى يحينَ الوقتُ أنا إيفرارد دوميني. لا يمكنني استغلالُ مشاعرك تجاه ليوبولد فون راجاشتين. فهو ليس هنا. إنه في أفريقيا. ربما في يومٍ من الأيام يعود إليك ويكون كلُّ ما تتمنَّينه.»


ألقت يديه بعيدًا. شعر بعينَيها تخترقان عينيه، هذه المرة بشيء أشبهَ بالفضول الغاضب.


صاحت: «دعني أنظر إليك.» وأضافت قائلةً: «دعني أتأكد. هل هذا مجرَّد تغييرٍ مروِّع أم أنك مُحتال؟ قلبي يزداد خوفًا. هل أنت الرجل الذي انتظرته طوالَ هذه السنوات؟ هل أنت الرجل الذي أعطيت له شفتَيَّ، ومن أجله ضحَّيت بسمعتي، الرجل الذي قتل زوجي وتركني؟»


ذكَّرها بصوتٍ يرتجف من التأثر: «كنتُ منفيًّا.» وأضاف قائلًا: «أنتِ تعلمين ذلك. وفيما يتعلَّق بالأمور الأخرى، أنا منفي الآن. وأعمل على التكفير عن ذنبي.»


مالت إلى الخلف في مقعدها بإرهاق. وأغمضت عينيها. ثم دخلت السيارةَ عبر بوابة حديدية وتوقَّفت أمام بابها الذي فُتح على الفور. وأسرع خادمٌ نحوهما. التفتت إلى دوميني.


وناشدته: «ألن تدخل، ولو وقتًا قصيرًا؟»


أجاب بطريقة رسمية: «إذا سمحتِ لي بزيارتك، فسوف يسعدني ذلك كثيرًا.» وأضاف قائلًا: «سأزورك، إذا سمحتِ لي، عند عودتي من نورفولك.»


مدَّت إليه يدها بابتسامةٍ حزينة.


دعته قائلةً: «دع خدَمي يأخذوك إلى أي مكان تريده، وتذكَّر»، وأضافت وهي تخفض صوتها، «أنا لا أعترف بالهزيمة. هذا ليس آخرَ كلام بيننا.»


اختفت بعصبيةٍ نوعًا ما، يُرافقها عبر الباب الأمامي الكبير لأحد قصور لندن القليلة كبيرُ خدمٍ جذابٌ وخادم يرتدي زيًّا خاصًّا بمنزلها. عاد دوميني إلى فندق كارلتون، حيث وجد في الصالة الفرقةَ تعزِف، والجماهير لا تزال جالسة حولها، وكان سيمان واضحًا، بملابس العشاء الأنيقة وطريقته الملائكية التي تجذب انتباهَ معارفه الجدد المحتملين. رحَّب بدوميني بحماس.


وصاح قائلًا: «تعالَ، لقد سئمت الوِحدة! بالكاد رأيت وجهًا أتعرَّف عليه. لساني جافٌّ من قلة الكلام. أحب التحدث، ولم يكن يوجد مَن أتحدث معه. ربما كان من الممكن أن أجعل منزلي الصغير في فورست هيل مفتوحًا.»


«سأتحدثُ معك إذا كنت ترغب في ذلك»، وعده دوميني بقليلٍ من الجدية، وهو يُلقي نظرةً خاطفة على الساعة ويطلب على عجلٍ ويسكي وصودا. وأضاف خافضًا نبرةَ صوته: «سأبدأ بإخبارك ما يلي.» وأضاف قائلًا: «لقد اكتشفت أكبرَ خطر عليَّ مواجهته خلال مهمتي.»


«ما هو؟»


«امرأة — الأميرة إيدرستروم.»


أشعل سيمان سيجارَه الذي لا غنَى عنه، ووضع إحدى رجليه القصيرتين السمينتين على الأخرى. وحدَّق برهةً بارتياح في قدمِه الصغيرة المغطاة بأناقة بحذاء مريح.


اعترف قائلًا: «أنت تُفاجئني.» وأضاف قائلًا: «لقد نظرت في الأمر. ولا أستطيع أن أرى أيَّ صعوبة كبيرة.»


أجاب دوميني: «إذن فأنت تغضُّ طرْفَك عنها عن عَمْد، وإلا فأنت جاهل تمامًا بحالة الأميرة المزاجية وطبيعتها.»


أجاب سيمان: «أعتقد أنني أتفهَّم كليهما، لكني ما زلت لا أرى أيَّ صعوبةٍ استثنائية في الموقف. بصفتك نبيلًا إنجليزيًّا، لديك الحق الكامل في الاستمتاع بصداقة الأميرة إيدرستروم.»


قال دوميني متهكمًا: «وأنا الذي ظننت أنك رجل عاطفي!» وأضاف قائلًا: «تصورت أنك تفهم القليل عن الطبيعة البشرية. ستيفاني إيدرستروم وُلدَت وترعرعتْ في المجر. حتى العِرق لم يُعلِّمها أبدًا ضبط النفس. أنت لا تفترضُ بجدية أنها بعد كل هذه السنوات، وبعد كلِّ ما عانته — وهي بالفعل عانت — ستكون راضية عن شكلٍ من أشكال الصداقة الضعيفة؟ أتحدث معك دون تحفُّظ، يا سيمان. لقد أوضَحَتْ هذه الليلة أنها لن تكون راضية عن أيِّ شيء من هذا القبيل.»


قال سيمان: «ما يحدث بينكما على انفراد …»


قاطعَه رفيقه: «هراء!» وأضاف قائلًا: «الأميرة امرأة مندفعة، وعاطفية، وساذَجةٌ على نحوٍ واضح، ومع ذلك لديها قدرٌ كبير من وحشية الحيوانات البرِّية. من غير المحتمل أن تكون المؤامرات أو الضرورات السياسية أمرًا سهلًا معها.»


احتجَّ سيمان قائلًا: «لكنها بالتأكيد تفهم أن بلدك قد استدعاك لتأدية عملٍ عظيم؟»


هزَّ دوميني رأسه نفيًا.


وأوضح: «إنها ليست ألمانية.» وأضاف قائلًا: «على العكس من ذلك، مثل العديد من المجريِّين الآخرين، أظن أنها لا تحب ألمانيا والألمان. همُّها الوحيد هو المسألة الشخصية بيننا. إنها تعتبر أن كل لحظة من بقية حياتي يجبُ أن تُكَرَّس لها.»


علَّق سيمان: «ربما من الجيد أنك رتبتَ للذَّهاب غدًا إلى قصر دوميني. سوف أفكِّر في خُطة. يجب فعْل شيءٍ ما لتهدئتها.»


أُطفئت الأنوار. ونهض الرجلان رغم إرادتهما إلى حدٍّ ما. وشعر دوميني بانعدامِ رغبة غريبٍ في النوم، لكنه في الوقت نفسِه كان يريد التخلصَ من رفيقه. سارا معًا في القاعة المظلمة بالفندق.


وعَدَه سيمان: «سأتعامل مع الأمر من أجلك قدرَ استطاعتي.» وأضاف قائلًا: «في رأيي، سوف تُواجه غدًا الصعوبةَ الكبرى. أنت تعرف ما عليك التعامل معه في قصر دوميني.»


كان وجه دوميني شديد الإصرار والجدية.


قال: «أنا مستعد.»


كان سيمان لا يزال مترددًا.


سأل «هل تتذكَّر أنه عندما تحدَّثنا عن خططك في كيب تاون، أريتَني صورة — لليدي دوميني؟»


«أنا أتذكَّر.»


«هل يمكنني إلقاءُ نظرة أخرى عليها؟»


سحب دوميني، بأصابعه التي كانت ترتجف قليلًا، من جيب معطفه العلوي حافظةً جلديةً، وأخرج منها صورةً باليةً. نظر الرجلان إليها جنبًا إلى جنبٍ تحت أحد المصابيح الكهربائية التي تُركت مشتعلة. كان الوجهُ وجهَ فتاة، تكاد تكون طفلة، وبدت العينان الجميلتان مملوءتَين بنور غريب وجذَّاب. وكان ثمة شيء له الأثر نفسُه يمكن العثور عليه في الشفاه، ضَعفٌ معيَّن، مناشدة لمخلوق أقوى لتوفير الحب والحماية.


استدار سيمان بقليل من التذمُّر، وعلَّق قائلًا:


«إذا سمحت لنفسي بإعادةِ تخيُّل المشاعر العادية للإنسان العادي للحظة أو اثنتين، لتمكَّنت من الحصول على العشرات من أميراتك في وقتٍ أسرعَ من صاحبة تلك الصورة.»

Similar Products

2305582322061104921

Reviews